بقلمٍ موجَعٍ من حُــزنٍ ورَهافة، خطَّت جِين سَعيد مقدسي يومياتِها إِبّان خمسَ عشرةَ سنةً من الحرب في لبنان (1975-1990) وأَصدرتْها بالإِنكليزية في نيويورك سنة 1990 لدى دار النشر الأَدبية المعروفة “ﭘــيرسيا”. نفدَت طبعتُها الأُولى فأَصدرَت الدارُ طبعةً لها ثانيةً سنة 1999، واعتبرَها ملحق “نيويورك تايمز” الأَدبي “أَفضل كتاب سنة 1990″، وأَصدرت “دار الساقي” في بيروت سنة 2009 طبعتَها العربية بعنوان “شَـتات بيروت” في 310 صفحات قطعاً وسطاً، بترجمةٍ وضعَها كمال الخَولي وراجعَها سليمان بختي.
من إِهداء الكتاب يتجلّى شغَفُ الـمؤَلّفة بـبيروت: “إِلى بيروت وأَهلها الصابرين على الأَذى، مَن حافظوا على رُوح بيروت وحيويَّـتها رغم كلّ ما حصل، وإِلى سمير الذي علَّمني معنى تلك الروح“. وسمير هو زوجُ المؤَلفة: الدكتور سمير أَنيس المقدسي، من أَركان الجامعة الأَميركية في بيروت وترأَّسها ذاتَ فترة.
منذ مطلع الكتاب تُعلن رسالتَه المؤَلّفة: “ما يَهمُّني لا أَن يكون كتابي مجردَ سجلٍّ لـمعاناة الناس بين 1975 و1990، بل أَن يَـحتلّ مكانته في أَدبيات الحروب فيمحو من ذهن قرائه سمعةَ بيروت اليأْس والحرب، ويُسجِّل إِنسانيةَ اللبنانيين وصمودَهم وقدرتَهم لا على البقاء وحسْب بل على الاستمرار في حمل مشعل الحضارة، وفي مواصلة الإنتاج الثقافي والعلاقات الاجتماعية رغم أَقسى الصعوبات. لم أَشأْ كتابي تحليلاً سياسياً لـِما حدَث، بل شهادةً شخصيةً على ما رأَيتُه من تجارب الناس. كنتُ أَكتُب هذه المذكّرات والقذائفُ تَنهمر علينا، والمعاركُ تحتدم حولنا، والعنف يتهدَّدنا كلّ يوم، لذا جاء موقفي في الكتاب معادياً كُلَّ عنف، مؤَاخياً تجربةً إِنسانيةً جَـماعية“.
وفي رسالة الكتاب أَنّ النسيان ليس طريقَ الخلاص، ولا الغفران يكونُ بشطب صفحات من التاريخ، بل يجب التذكُّرُ للإِقدام إِلى الأَمام، فالتَذَكُّر يَهزم الماضي ويَستعيده إِلى الوعي الكامل كي يتمَّ التصدي له عقلانياً وواقعياً.
بهذه الواقعية غير المقنَّعة بالوهْم، نسجَت جِين سَعِيد مقدسي صفحاتِ مذكّراتها في ستة فصول الكتاب، منذ معجم أَلفاظٍ شاعَت إِبان الحرب، إِلى التغيُّر في سِمات بيروت، إِلى المتناقضات في ما حصل، إِلى الاجتياح الإِسرائيلي (1982)، إِلى تأَمُّلات في المجازر الرهيبة، وصولاً إِلى بقايا أَملٍ جرَحتْه الحرب لكنها لم تمزقْه.
بهذه المرآة النقية من كل يأْس، ختمَت جِين سَعِيد مقدسي كتابها “شَتات بيروت” بأَملٍ هَـمَّام يلوح من بين الركام، وتَطَــلُّعٍ إِلى بيروت 1990 تَخرج من الدَّمار إِلى العَمار، ومن الرَماد إِلى الضَماد، ومن الحرائق إِلى الحدائق، وأَمِلَت أَن تعود بيروتَ التي كانت لُؤْلُؤَةَ الشرق وكنزَ المتوسط، بيروتَ المركز الثقافي والاقتصادي والدُوَلي، فتعيدَ إِلى لبنان جنَّتَهُ، وإِلى شعبه بهجَتَهُ، وإِلى مستقبله شمساً تُشرق من ظُلمة الحرب الشرسة.
كتاب جِـين سَعِيد مقدسي “شَـتات بيروت“، شهادةٌ من سيّدةٍ كتَبَت يومياتِها بأُمومةٍ وقلقٍ وخوفٍ على المصير، وقدَّمتْها إِلى قرّائها في لبنان والعالم شهادةً على وطنٍ لبنانـيٍّ فريدٍ يَعرف بَعد كُلّ عاصفةٍ أَن يستعيدَ ربيعَه إِلى أَبهى مصير.