في 950 صفحة قطعاً كبيراً تَـمَكَّن المؤَرِّخ اللبناني الياس القطَّار من رسم خارطة زمانية ومكانية لـــ224 سنة من حُكْم المماليك جمَعَها في كتابه الضخم “لبنان الوسيط – عهد السلاطين المماليك” الصادر قبل أَيام لدى “مركز فينيكس للدراسات اللبنانية” في منشورات جامعة الروح القدس-الكسليك.
وهو سَرَد في هذا السِفْر ولاية المماليك البحريين منذ تولَّوا الحكم من الأَيوبيين سنة 1250، حتى انهزامِ المماليك البرجيين أَمام السلطان العثماني سليم الأَول في معركة “مرج دابق” سنة 1516 تاريخ بداية العهد العثماني.
ويوضح المؤَلّف أَن لبنان في عهد المماليك لم يحظَ بدراسة مستقلة، لكنّ طرابلس كنيابة ولاية، شكّلت موضوع دراسات متعدّدة أَبرزها كتاب موريس سوبرنهايم الصادر في القاهرة سنة 1945، وكتاب حكمت بك الشريف “تاريخ طرابلس الشام من أَقدم أَزمانها إِلى هذه الأَيام” الصادر في طرابلس سنة 1978.
ويرى المؤَلّف أَنّ لبنان الوسيط إِبّان العهد المملوكي كان غنياً بمناطقه الجبلية وبقية أَرجائه، إِذ وصلَتْنا من القرون الوسطى، وخصوصاً من القرن الخامس عشر، مصادرُ عن تلك الحقبة أَوضحَت تَبَلْوُرَ لبنان بتركيبته الطائفية والعائلية ونُظُم الإِقطاع فيه، وأَبرزُ تلك المصادر ثلاثة: “تاريخ بيروت” لصالح بن يحيى، “تاريخ صدق الأَخبار” لابن اسباط وزجليات ابن القلاعي.
تبدأُ حملات المماليك على الشيعة والموارنة في كسروان الذي كان ممتدّاً من جسر المعاملتين شمالاً ويتبع نيابة طرابلس. ومن هناك درس المؤَلّف الأَوضاع السياسية والعسكرية فترتـئـذٍ، وما كان لتلك الحملات المملوكية من أَثَر على جغرافيا الطوائف والصراع السياسي اللاحق مع الفرنج في سواحل لبنان، كما على المشاركة في الحرب ضد بلاد الأَرمن، وصناعة الأَحداث في بلاد الشام.
في دراسة المجتمع ركَّز المؤَلّف على الهوية السكانية لنيابة طرابلس في العهد المملوكي، وصولاً إِلى إِحصاء قضاء بيروت فقَضاء صيدا فقَضاء الشوف، فمَسْحٍ للمدارس إِبّان لبنان المملوكي في طرابلس وبعلبك وجزين، ومدارس الموارنة في الأَديار وجِوار الكنائس، ومدارس الدروز في خَلَوات أَنشأَها السيد عبدالله التـنّـوخي.
وسرَدَ المؤَلّف خارطة الإِدارة المملوكية بين تقسيمٍ إِداري ووظائفَ إِداريةٍ وديوانية ودينية، ودرَسَ تَطَوُّر العمران في طرابلس وعكار وجبّة بشرّي، بُلوغاً إِلى دراسة الحياة الاقتصادية والتجارة البحرية انطلاقاً من موانئ صور وصيدا وطرابلس وبيروت.
ويختم المؤَلّف كتابَه الضخم منوِّهاً باستقرار الإِقطاع في لبنان زمنَ المماليك، ما أَسّـس لاحقاً للإِمارة اللبنانية، المعنيّة أَوّلاً ثم الشهابية، لذا لم يتغيّر النسيج الاجتماعي في لبنان حتى مع سقوط لبنان في الحكْم العثماني، وبقيَ العمرانُ عنوانَ طرابلس بجوامعها ومدارسها ودَورها الرائد ثالثةَ عواصم نيابات الشام.
كتابُ الياس القطّار “لبنان الوسيط – عهد السلاطين المماليك” مرجعٌ أَساسيٌّ لفترةٍ لا بدّ من الرجوع إِليها لفهْم تاريخ لبنان وما تركَت فيه حقْبة المماليك من جراحاتٍ دامية في جماعاتٍ لبنانية لا يزال بعضُها حتى اليوم يعاني من عُقَدِه المزمنة لدى بعض جماعاته التاريخية.