حين تركتُ سوق جبيل عند الحادية عشْرةَ ليل الجمعة الماضي، لم أَكن أَحسبُ أَنّ ليلي سيَتَمطّى شرِساً على طريق العودة. فما كِدتُ أَعبُرُ كيلومترَين من جبيل حتى ارتطمتُ بزحمة السيارات صفوفاً أَربعةً وخمسةً متوقِّفةً بشكلٍ شبْهِ تام، وإِذا سارت فَــبِــبُــطْءٍ سُلَحفاتي مُـضْـنٍ ومُرهِق.
ظننتُ بادئَ الأَمر أَنّ في الطريق حادثَ اصطدامٍ أَو حاجزاً أَمنياً ولا بُدَّ أَن ينقشع السير. غير أَنَّ ساعةً مرَّت والسيرُ متوقِّف، حتى اتصلتُ بـ”صوت لبنان” مستفسراً فأَجابني الصوت أَنّ عشرات الاتصالات مثلي تنْهمِر على الإِذاعة وأَنّ السببَ عمليةُ تحفيرِ الزفت، أَو ما بقيَ منه ومن ترقيعاته، تمهيداً لتزفيت الطريق في طبرجا.
بقيتُ طوباوياً في التفكير ظناً أَنّ الازدحام ناجمٌ عن إِقفال نصفٍ أَيمن أَو أَيسَر من الطريق وتأْمينِ السير على النصف الآخر خطّاً واحداً. غير أَنّ السير، عندما انفلَت من سجنه الظالِـم بعد أَكثرَ من ساعتين ونحن واقفون في مكاننا، اتَّضح أَنّه كان مقطوعاً كلّياً في انتظارِ أَن ينتهي العمّال من تحفير كل الطريق، وتحوَّل السير إِلى الطريق القديم الضيّق الذي لا يتّسع إِلى أَوسعَ من سيارةٍ ذهاباً وأُخرى إِياباً، فكيف بأَربعةِ صُفوفٍ صَبَّت جميعُها في هذا الطريق الضيق.
وزاد من شدّة الزحمة خروجُ المشاهدين من حفلة مهرجان بيبلوس تلك الليلة.
أَكثرُ من ساعتين ونحن في الطريق، والناس في ثورة، والزمامير تمزِّق سُكون الليل ولا نتيجة.
ماذا لو كان بين المعتقلين معنا ليلتَها سيدةٌ فاجأَها الـمَخاضُ وتهرع إِلى المستشفى لتضَع مولودَها؟
ماذا لو كان بين المعتقلين رجلٌ مُصابٌ بنوبةٍ عاجلةٍ ويجب أَن يصلَ إِلى طوارئ المستشفى في أَقلِّ دقائقَ من حياته؟
ماذا لو كان بين المعتقلين مواطنٌ مسافرٌ يجب أَن يَـبـلغَ المطار في ساعةٍ لا تَرحَم المتأَخرين عنها لِتُقْلِعَ الطائرة؟
هوذا قهرٌ آخَرُ يَرتطم به المواطن.
كأَنما لا يكفي المواطنَ قهرُ اصطدامه بتِلال الزبائل على طرقات عمله والعودةِ إِلى بيته.
كأَنما لا يكفي المواطنَ قهرُ اعتقالِه في زحمة سير يوميةٍ صباحاً وقبل الظهر وظهراً وبعد الظهر وغروباً ومساءً، حتى تدهمَه أَشغالُ الصيانة في منتصف الليل بدون إِشاراتٍ ولا علاماتٍ مسْبقة كي يتنبَّه المواطنون إِلى ما ينتظرُهم فيُعَدِّلوا طريقَهم أَو يُؤَجِّلوا خروجَهم.
كأَنما لا يكفي المواطنَ قهرُ سياسيين يُهدِّدون يومياً مصالحَهُ وأَعمالَهُ ومَصيرَهُ بعنترياتهم وَهَوْبَراتهم وتصاريحِهم وبياناتهم.
عملٌ طائشٌ لامسؤولٌ يضاف إِلى عشرات أَعمالٍ وفُصولٍ أُخرى تُحاصرُ المواطنَ كلَّ يومٍ وتَعتقِلُ وقتَهُ ومستقبلَه في وطنٍ يُنفِّرُه بعضُ مسؤُوليه من البقاءِ فيه، ومن التعلُّق به، ومن العودة إِليه إِن كان يعمَلُ خارجه.
أَزماتٌ… أَزماتٌ… تَنْقَضُّ على المواطن كلَّ يومٍ ولا مَن يهتَمُّ لها أَو يُعالجُها في دولةٍ بين أَركانها مَن يعطِّــلُها بعناده الشخصاني وُصولاً إِلى مصالحه ومآربه ومطالبِه يُطلقُها “باسْم المواطن” و”من أَجل المواطن” و”لـمصلحة المواطن” و”تحصيلاً حقوقَ المواطن”.
غير أَنّ حقوق المواطن لن تصلَه إِلاّ في حالةٍ واحدةٍ وحيدة: يومَ تتخَلَّص الدولةُ من مُـعَـطِّــلـيـها الدونكيشوتيّين.