هزّت شبكاتِ التواصُل الاجتماعي قبل أَيام، والصفحاتِ الأُولى من الصحُف العالمية، صورةُ رجلٍ سبعينيٍّ على رصيف مدينة تَسَالُونيكِيا اليونانية، يحمل دفترَ التوفير وبطاقةَ هويته ويبكي أَمام المصرف الوطنيِّ اصطفَّ أَمام بابه المواطنون في صَدمةٍ وذُهُول.
يبكي، لا لأَنّه خسر مقتَصَداته الماليةَ وحسْب، وليس فقط لأَن المصرف امتنع عن تلبية طلَبِهِ سحْبَ مبلغ من المال يعيش به وسط الأَزمة الطاعنة التي خضَّت اليونان أَخيراً. فحين اقترب منه مراسل وكالة الصحافة الفرنسية (AFP) مستفسراً مُؤَاسياً أَجابه شارقاً بدمعه السافر: “أَنا لا أَبكي على وضْـعِــيَ الشخصي فقط بل أَبكي على وطني أَن يهبطَ إِلى هذا البؤْس القاهر، وأَن أَرى حولي رفاقي المتقاعدين، بعدما تعِبوا كلّ العمر، يستَجْدُون اليومَ قُروشاً من المصرف لشراء رغيف خبز، وأَن أَسمعَ عن حالات انتحارٍ متزايدةٍ يأْساً من الحالة في البلاد. لم أَعُد أَستطيع احتمالَ أَن أَرى بلادي بهذه التعاسة”.
وفهِمَ المراسل من هذا المتقاعد السبعينيّ أَنه عَمِلَ خمسين سنةً في عتمةِ منجمٍ للفحم، وها هو اليوم غيرُ قادر على شراء الدواء لزوجته المريضة، بسبب تَأَزُّم الوضع المالي في اليونان ووقوعِها في مأْزق بقائها أَو انسحابِها من منطقة الــ”يورو” الأُوروﭘــية.
لا أُناقشُ قرارَ حكومة اليونان، أَو نتيجةَ استفتاءٍ أَسفرَت عن “لا” عالية ترفض إِجراءات المموِّلين الأُوروﭘــيّـين لإِنقاذ اليونان. أُفَكِّرُ في أَحوال مواطنينَ يَدفَعُون دمعاً وقهراً وموتاً أَخطاءَ قادةٍ يتصرَّفون بمصائر الناس كما بِـحَمّالة مفاتيحهم، يُخطِّطون وينفِّذون ببطْشٍ وصلَفٍ وأَنانيةٍ وشخصانيةٍ وديكتاتوريةٍ وقهرٍ ونيرونيةٍ وجنكيزخانيةٍ عمياء، لا تَهُزُّهم صرخاتُ أَطفال، ولا تردَعُهم استغاثاتُ أَرامل وثكالى، ولا تَبْلُغُ قلوبَهُم نداءاتُ الاسترحام!
كم صورةَ أَطفالٍ مشرَّدينَ في الشوارع والأَزقّة، ونساءٍ تائهاتٍ بلا مأْوى ولا ملْجَإٍ، وعائلاتٍ نازحةٍ لاجِـئَـةٍ مُـشَـتَّــتَــةٍ، يَلزَمُ أُولئك الطغاة المجرمين حتى تنهارَ عروشُهم وتتفكَّكَ كراسيهم ويستيقظَ الضمير في أَنظمتِهم وتتدحرجَ رؤُوسهم على أَقدام المشرَّدين؟
كم جريمةً جَماعيةً ومأْساةً جماهيريةً وفاجعةً قارصةً يلزَم قادةَ العالم كي يتحرَّكَ في قلوبهم ما يُــنَــبِّــهُهُم إِلى أَنّ الأَسَفَ الكلاميَّ لا يُعيدُ قَتيلاً، والتصاريحَ الاستنكاريةَ لا تُوْقِف زلزالَ موت، والالتفافاتِ السياسيةَ لا تُنْقِذُ المدُنَ من التدمير والأَحياءَ من التفجير والناسَ من التهجير.
وهذا الذي يجري عندنا اليوم، يُطْلقُه البعضُ أَنانياً ومصلحياً وشخصانياً، لا يقلُّ فجيعةً عن التدمير والتفجير والتهجير، فالبلادُ كلُّها على ذُعْرٍ وقلَقٍ وصَدمةٍ وذهولٍ مما يَجري بسبب المفترَض أَنّهم حماةُ البلاد وسُراةُ العباد، يتناتَشُون الدستور إِلى صُدُورهم، والقوانينَ إِلى مصالحهم، ومصيرَ البلاد والعباد إِلى قُطْعانٍ يقودونُها – أَو يَظُنُون أَنهم يَقودونها – إِلى حظيرتهم هُم دون سواهم.
لا. طبعاً لا. لا يُمكن هذا أَن يستمرّ فـيـنـتـحِبَ شعبُنا على ناصية رصيف.
إِنّ في دموع ذاك السبعينيِّ المتقاعِدِ على رصيف المصرف في اليونان ثورةً ستنفجِرُ في وُجُوه الـمُسَبِّـبين، وفي ذهول شَعبنا وصَدْمته غَضَباً سينفجر في وجوه مَن يَقُودُون بلادَنا وشعبَنا إِلى وصولِهم ومطامِعِـهم، لِــيَـــثْــبُــتَ أَنْ وحدَه سينـتـصـر: وصولُ الوطن إِلى خلاصِه منهم، وإِلى مطامح الشعب أَنْ يَـنْـفُـضَ عنه أَشباحَ القادة الـمُـزَيَّـفـين.