لم يكن مصادفةً إِقبالُ الكثيرين على البدء بقراءة جريدة “النهار” من صفحتها الأَخيرة، ولا انتظارُ المشاهدينَ الصفحةَ الأَخيرةَ من نشرة الأَخبار في محطة “إِل. بي.سي” وبعدها في تلـﭭـزيون “المستقبل”.
ذلك أَنّ رسمةً عجلى من ريشة ﭘــيار صادق كانت توجِزُ حالةً سياسيةً أَو وجدانية لا تَفيها دقائقُ مطّاطةٌ من مذيع تلـﭭـزيوني، ولا أَعمدة طويلة من صفحات الجريدة.
وكان لا بدّ من الحفاظ على تلك الرسمات الثاقبةِ التأْثير كي لا تذهبَ إِلى النسيان مع أَوراق جريدةٍ تصفَرُّ تحت غبار الرفوف العتيقة، وكي لا تسحقَها السرعة الضوئية على شاشةٍ تلـﭭـزيونيةٍ تبتلع اللحظات ولا وقت لديها للتَأَمُّل في لحظة واحدة.
لذا أَحسَنَت “مؤَسَّسة ﭘـيار صادق” بِــحفْظ بعض الرسمات في أَلبومٍ أَوّلَ يُــبقيها أَمام العين كلّما تاقَت العين للعودة إِليها، والتّأَمُّلِ في البراعة العبقرية التي خلَّدَت حَدَثاً أَو حادثةً أَو موقـفاً أَو شخصاً في بضعة خطوطٍ كاريكاتوريةٍ أَبلغَ من ثرثرةِ صفحات.
هذا الأَلبوم الأَول أَمامي يضمُّ 54 رسمةً كاريكاتورية أَبدعَــتْها ريشةُ ﭘـيار صادق وصدرَتْ في جريدة “النهار” بين 1964 و1975، شاهدةً على محطات سياسية لبنانية وعربية وعالمية تُمْكنُ استعادةُ حدثِها في لحظة واحدة لمجرّد النظر إِلى رَسْـمة ﭘــيار.
في هذا السياق مثلاً نسترجع فَوز تقي الدين الصلح نائباً في انتخابات بعلبك الهرمل سنة 1964 وهو مبتهجٌ خارجٌ من سيارة فولكسـﭭـاكن ترمز إِلى نجاحه بفضل استخبارات المكتب الثاني في تلك الفترة.
ونسترجع انتخاب الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1965 باستفتاءٍ شعبي بلغ 99،99%، وورقةَ لعب من فئة الملِك عليها في الأَعلى صورة الرئيس فؤَاد شهاب عسكرياً وفي الأَسفل صورة الرئيس شارل حلو مدنياً، وتعليق ﭘــيار عليها: “إِزدواجية الحكم” سنة 1966 للدلالة على بقاء الهيمنة الشهابية في عهد الرئيس شارل حلو.
وفي رسْمة معبِّرة أُخرى نسترجع تبايناتٍ سياسيةً كانت سنة 1969بين أَركان الحلف الثلاثي كميل شمعون وﭘــيار الجميّل وريمون إِدّه في جلسة مؤتمر لذاك الحلف، ونسترجع شَدّ حبالٍ إِعلامياً بين ﭘـيار الجميل وكمال جنبلاط إِبّان أَزمة تشكيل الحكومة بعد اتفاق القاهرة سنة 1969. ونرى في رسْمة أُخرى دمعةً تنحدر على خدّ أَبو الهول عند وفاة الرئيس جمال عبدالناصر في أَيلول 1970، ونتابع رسماتٍ لأَحداث دولية مع غولدا مائير في إسرائيل، شارل ديغول في فرنسا، أَلكسي كوسيغين في موسكو، وسواها وسواها من لحظاتٍ لبنانيةٍ وعربيةٍ وعالميةٍ أَرَّخَها ﭘـيار صادق في رسْماته الكاريكاتورية فبقيَت إِلى اليوم وستبقى لكلّ يوم مُؤَرَّخَةً بتلك الريشة البارعة التي تقول بصمتٍ ما لا تقوله الأَصوات، وتكتبُ حافيةً ما لا تُسْمِعُه الكلمات، وتعبِّر في اختصارٍ عبقريٍّ عما لا يمكن أَن يعبّر عنه رأْيٌ في وقتٍ شفويٍّ أَو مساحةِ نص.
وهو هذا ما كان في زمنٍ ذهبيٍّ للبنان بِــريشةٍ ذهَبٍ من الـمُـبدع ﭘــيار صادق.
هـنري زغـيب email@old.henrizoghaib.com