مبروك لـمدينة بوردو الفرَنسية فوزُها بلقب “أَفضل وُجهة سياحية أُوروﭘــية سنة 2015″، أَعلنَتْ فوزَها لجنةُ “أَفضل وُجهة سياحية أُوروﭘــية” (تأَسَّست في بروكسِل سنة 2009 تشجيعاً لـتنمية السياحة في أُوروﭘـا). وجاءَ فوز بوردو أُولى بين 20 مدينةً تبارت، فَـحَــلَّت ثانيةً ليشبونة وثالثةً أَثينا وتاسعةً ميلانو وعاشرةً بروكسِل.
ولأَنني لم أَزُر بوردو ولا أَعرف عنها إِلاّ غِنَاها بالكروم والنبيذ، بَحثْتُ عن معالـمَ فيها جعلَتْها وُجهةً سياحيةً أُولى، فإِذا هي تحضُن عشرات المواقع والمعالم الأَثرية والتراثية والتاريخية، منها القديمُ الراقي إِلى القرن الثالث وما بعده حتى القرون الوسطى، ومنها الكلاسيكي الراقي إِلى ما قُبَيلَ الثورة الفرنسية وما بعدَها، ومنها الحديثُ الراقي إِلى مطالع القرن الماضي حتى اليوم. ويتشكّل غنى تراثها من قصور وأَديار وكنائس وأَنصاب وحدائق ومُدَرَّجات تاريخية، أَدخلَت معظمَها منظمةُ الأُونسكو على لائِحتها للتراث العالمي.
في صدارة هذه اللائِحة من المعالم تَعتزُّ بوردو بـمَرفإِها الشهير الـمُسمَّى “مِينَا القمر” (Port de la lune) أَدخلَتْه الأُونسكو في حزيران 2007 على لائِحة التراث العالمي الماديّ كمُجَمَّـع مديني ومعماري فريد يرقى إِلى القرن الثامن عشر وما زال يُحافظ على أَبنيته التراثية بهندستها الأَصلية، وفيها إِرثٌ تجاريٌّ بَحْريٌّ يرقى إِلى القرن الثاني عشر. وإِلى دورها الحضاريّ رجَعَ فلاسفةُ عصر الأَنوار في اختيارهم إِياها نموذج الإِنسانية والشمولية والثقافة.
مبروك إِذاً لـ”مينا القمر” دُخولُها لائِحةَ التراث العالمي واستقطابُها سيّاح العالم إِلى بوردو “أَفضلِ وُجهة أُوروﭘـية”.
أَفْــرَحُ لفرنسا على ما عندَها ، ويَتْرَحُ قلبي على ما عندنا.
عندها “مينا القمر”؟ نحن أَيضاً عندنا “جسر القمر” و”دير القمر” و”تلة القمر” و”دَرَج القمر”.
عندها معالِم دخلَت التراث العالمي؟ نحن أَيضاً عندنا معالم دخلت اللائِحة: عنجر، بعلبك، بـيـبـلـوس، صور، وادي قاديشا.
عندها عشرات المواقع والمعالم الأَثرية والتراثية والتاريخية؟ نحن أَيضاً عندنا عشراتُ عشرات، رغم ضآلة جغرافيانا إِزاء فرنسا.
عندنا ما عندها، إِلاّ ما يوجِعُ أَن يكونَ عندنا فقط.
أَن يكونَ عندها أَمنٌ وأَمانٌ وحفاظٌ رسميٌّ حريصٌ على تراثٍ تعرف الدولة كيف تحافظ عليه، وأَن يكونَ عندنا وادي قاديشا تُهدِّدنا الأُونسكو بسَحْبه من لائِحة التراث العالمي لِـمُخالفاتٍ فيه وتَعَدِّياتٍ تَعصى قوانينَ الحفاظ على الإِرث التاريخي، وأَن تكونَ عندنا صُوْر نَهَبَتْ بعضَ إِرثها إِسرائيل يوم اجتاحَت لبنان، وأَن تكونَ عندنا عنجر مُهمَلَةً إِلاّ من مهرجانٍ غيرِ دوري لا فائدةَ منه سوى التصفيق في آخر السهرة، وأَن تكونَ عندنا بعلبك الخالدة يَخاف مهرجانُها أَنْ يتمِّم فيها لياليه خوفَ ما قد ينهال عليها من الحدود الشرقية وما خلفَ الحدود، وأَن يكونَ لدينا في جبيل أَقدَمُ مرفإٍ في التاريخ ومهدَّدٌ بالانهيار لكنَّ الدولةَ مشغولةٌ بإِرضاء وزرائها في اختراع آلية لتسيــير جلسات الحكومة.
هي ذي معالِـمُنا الخمسةُ المسجَّلة على لائِحة التراث العالمي، كلٌّ منها يوجَع من تَهديد أَو إِهمال.
بلى: مبروك لبوردو فوزُها وُجهةً سياحيةً أُوروﭘـية أُولى، ومبرورٌ لنا خوفُـنا على تراثِ لبنانَ الـمُـتَوِّجِ هامَةَ التاريخ، تعصِف به اليوم أَحداثٌ تخجَل من تسجيلها ذاكرةُ التاريخ.