طلبَتْ مني الجامعة اللبنانية الأَميركية (LAU) أَن أُحاضر عن تراث لبنان في إِحدى حلقات “البرنامج العربي لروّاد الديمقراطية”، وهو برنامجٌ مصمَّمٌ لدعم جهود الإِصلاح السياسي في الشرق الأَوسط وشمال أَفريقيا، يستضيفُ عشرين مشاركاً من معظم الدول العربية لاكتساب المهارات الأَكاديمية والخبرة العملية والتعرُّف إِلى احترافيين في مجال خبرتهم، باستخدام تقنيات تربوية عدة، بينها محاضراتٌ ومُحاكَياتٌ ونقاشاتٌ وتمارين على بناء المهارات وزيارات ميدانية.
تعمّدتُ في محاضرتي أَن أُطلع الضيوف العشرين لا على مجرّد الغنى في تراث لبنان، بل على الريادة في أَعلامه وأَعماله، أُعطيها زاداً لكوكبة من الشبان والصبايا يأْتوننا من بلدانهم مشْبعين بما فيها من حضارة وتراث.
غير أَنني، وأَنا أُلقي محاضرتي، كنتُ أَقرأُ على وجوه الحاضرين اندهاشَ أَن يكون لبنان بهذه الريادة في محيطه، هم الآتون إِليه بما يعرفون عنه من وضع سياسي وأَمني، غير مدركين أَنّ الإِرث اللبناني أَقوى وأَشدُّ وأَمتنُ من راهنه السياسيّ الهش.
لذا لاحظتُ في إِنصاتهم دهشةَ اكتشافٍ واضحةً حين قلتُ لهم إِنهم على أَرض الوطن الذي منه انطلق قدموس ابن صور بأَبجديته عن شط جبيل، وأَن بـيـبـلوس هي موطن الكتاب ومن اسمها اشتُقَّت كلمات بـيـبـل وبـيـبـليوتيك وبـيـبـلـيـوغـرافيا، وأَنّ بعلبك في لبنان هي أُعجوبة الجمال الهندسي في العالم، وأَنّ مدرسة الحقوق في بيروت كانت موطئ القانون الروماني، وأَنّ صيدا وصور كانتا، وفق بيار هوباك، مجمع معارف العالم ذات فترة زاهرة في التاريخ، وأَن طرابلس هي أَول أُمم متحدة في التاريخ بِجَمْعها حُكّام صيدا وصور وأَرواد لبحث شؤون بلدانهم، وأَن قانا لبنان هي التي اجترح فيها يسوع المسيح أَولَ أُعجوبة في حياته ومنذئذٍ آمن به تلامذتُه على ما يقول يوحنا في إِنجيله، وأَنّ أَول مسرحية عربية بالمعنى الكامل وُلدت على أَرض بيروت مع مارون النقاش سنة 1847، وأَن أَول جريدة عربية هي “حديقة الأَخبار” صدرَت من بيروت مع خليل الخوري سنة 1858، وأَنّ أَول مطبعة في الشرق ولدت على أَرض لبنان في دير قزحيا/وادي قنوبين سنة 1610، وأَنّ أَقدم جريدة عربية لا تزال تصدر حتى اليوم، “الأَهرام” في مصر أَنشأَها اللبنانيان من كفرشيما سليم وبشارة تقلا، وأَنّ نهضة الصحافة في مصر أَطلقها لبنانيون من “هلال” جرجي زيدان إِلى “مقتطف” و”مقطم” يعقوب صروف وفارس نمر، إِلى “زهور” أَنطون الجميّل، وأَنّ أَول نهضة أَدبية عربية في الغرب وُلدَت من صومعة جبران في نيويورك في نيسان 1920 وكانت “الرابطة القلَمية”، وأَن أَول مهرجان موسيقي غنائي في الشرق ولد على أَدراج هياكل بعلبك سنة 1957 مع الأَخوين رحباني.
وأَكملتُ على هذه المنوال محاضرتي فإِذا ختمتُ طالبُوني بـمزيد، وبهم دهشةُ اكتشافِ أَنّ اللبنان الذي يعرفونه غيرُ لبنان الذي اكتشفوه رائداً أَوَّلَ سباقاً في كلّ حقل. وانصرفتُ تاركاً في ذاكرتهم أَن لبنان الضئيل الجغرافيا والديموغرافيا هو المنتشر عمْقاً وصُعُداً في الريادة والإبداع، لأَنّ شعبَه خلاّقٌ ديناميّ، وأَبناءَه بُــنــاةُ الديمقراطية وروَّادُها.
صحيحٌ أَنّ البرنامج للتدرُّب على الديمقراطية، إِنما كان همّي أَن أَترك للحاضرين بصمةً عن لبنان الفكر والإِرث الحضاري، حتى إِذا وَعَـوا أَهمية الديمقراطية في لبنان وَعَـوا معها أَنّ الحريةَ فيه، كلمةً وممارسةً، هي منبعُ الديمقراطية في شعبه.
وبهذا الإِرث من الحرية والديمقراطية يـبـقى لبنان في محيطه والشرق منارةً مُشِـعَّــةً لا إِلى انطفاء.