أزرار- الحلقة 878
فخامةُ البساطة
السبت 31 كانون الثاني 2015

 

          كأَنما علامةُ الـمُكَـرَّسين: البساطة.

          وعلامةُ البساطة: عُريُها من كلّ بهرجةٍ تضاف إِلى طبيعتها، كالوردة لا تحتاج مقدِّمة أَو إِضافة على عطرها كي يأْرج.

          مكــرَّسان خسرهما الفن العالي هذا الشهر: فاتن حمامة وديميس روسوس.

          عند وفاة الأُولى تابعتُ لقطاتٍ من بعض أَفلامها، قديمِها والحديث، ولفتَــتْـني لديها البساطة. والبساطةُ هنا عنوانُ العمق في الشخصية هالةً ومضموناً. في الهالة: وجهٌ بريءٌ صافٍ في كلّ لقطة من كلّ فيلم في كلّ موقف، وحوارٌ يتمايل بين التهذيب والخلقية، وأَداءٌ أَخّاذ يُنسي الـمُشاهد أَنّ أَمامها كاميرا وأَنها تؤَدّي حواراً وأَنها في سياق سيناريو وأَنها “تُـمَثِّل”. ومَن تابَع حوارات معها (على قلَّتها) يُشْكِلُ عليه: أَين المرأَة؟ وأَين الممثلة؟ هي واحدةٌ خلف الكاميرا، أَمام الكاميرا، وبدون الكاميرا. وفي المضمون: حملَت في أَداءَاتها المتعدِّدة نَـفَساً واحداً يمكن اختصاره بـ”الالتزام”. في أَدوارها الـمتنوّعة لـم “تُؤَدِّ الدور” بل قناعةَ الالتزام بقضايا المرأَة المصرية في أَوضاعها الاجتماعية والوطنية والعاطفية، وفي جميعِها بقيَت أَناقةَ بثٍّ وأَناقةَ حضور.

          عند وفاة ديميس روسوس تابعتُ بضْع أُغنياتٍ له مصوَّرة، لفتَـتني فيها البساطة. والبساطة هنا عنوان الغنى من صوته الغنيّ. في معظم تلك الأُغنيات كان “هو” الـمَشهد: الكاميرا عليه، في لقطات وسيطة أَو قريبة، حتى يظلّ في المتلقي تَذَوُّقُ الصوت في ثنايا حنانه وأَدائه وغَوصه على الذات لإِخراج العاطفة من أَوتاره الصوتية. وهنا أَيضاً: بساطةٌ في التصوير كي لا تَسرق البهرجةُ لذّةَ الاستمتاع بأَلوان صوته المتماوجة مع معنى المعنى، وشكْل الصورة في النص، وتماوُجات الميلوديا في اللحن. فلا مَشاهدَ خارجية مضخَّمة ولا معقَّدة، ولا مجاميعَ حوله، ولا كوريغرافيا تُغري بالمشاهدة، ولا لقطات قصيرة في كلِّ لقطةٍ منظرٌ آخَر أَو مكانٌ مختلف. وحدَك أَنت مع صوته. وحدَك أَنت والكاميرا والتركيز على الأَداء. وهنا فخامةُ البساطة التي تأْسُرك بـبساطتها.

          لهذا قلتُ في المطلع إِنّ البساطة كأَنها علامةُ الـمُـكــرَّسين.

          وهنا الأَساس في البقاء الـمُوحَّد بين الشخص والشخصية: حين الشخص منسجمٌ مع ذاته وشخصيتُه عاكسةٌ شخصَه، ليس في حاجة إِلى زخرفات من الخارج تُضَاف إِليه أَو تُضْفي عليه.

وهو ما نَــنْشُدُه في التمثيل والغناء: التركيزُ على الصوت حين الـمُؤَدّي على المسرح في هيـبة الوِقفة، وعلى الأَداء حين الممثّل في هيـبة الشخصية، وفي الحالتَين يُؤْخَذُ الـمُتلقّي بالأَداءِ عارياً من كل بهرجة ماكياجيّةِ الشكل أَو المضمون.

وهذا ما يَجعل الـمُكــرَّسين خالدين، ولو غابوا عن الشاشة والمسرح.