في رسالة هذا البرنامج صباح الأَحد بتقديمه كتاباً عن لبنان أَو عن لبنانيين، أَفتح اليوم كتاب “كما عَــرفْــتُهُم” للباحث والـمُخرج محمد كــريِّــم، صادراً قـبل أَيام عن “دار نِلسُن” في 266 صفحة قطعاً وسطاً، راوياً ذكرياتِه عن أَربعة لبنانيين رُوَّاد (عُمَر الزعني، محمَّد شامل، توفيق الباشا، شوشو) كان له معهم، كمُخرج إِذاعي ومسرحي، عملٌ مباشَر في فترة إِنتاجهم الفنيّ.
أَول الأَربعة الكاتبُ والممثل محمد شامل الذي يَصفُه المؤَلّف بــ”رائد الفن الشعبي” طيلة ستة قرون ملأَى بالنتاج الإِذاعي والمسرحي والتلــﭭــزيوني منذ ثنائيِّه مع عبدالرحمن مرعي في المسرح وإِذاعة الشرق الأَدنى، حتى أَعماله اللاحقة لشوشو في الإِذاعة والتلـﭭـزيون. ويَصفُه المؤَلف “ذا حِـس كوميديّ لافت وثقافةٍ عميقة وضعَها في خدمة نصوصٍ تراوحت بين الدرامي والتاريخي والأَدبي والاجتماعي والفكاهي والشعبي مع الحفاظ على مستوى راقٍ من الأَخلاق والمعالجات”. وكانت له بصمة ساطعة عند انطلاق التلـﭭـزيون في لبنان سنة 1959 في برامج شتى منها: “فانوس جحا”، “يا مدير”، “شارع العــزّ”، “الدُّنيا هيك”، “حكاية كل يوم” وسواها. ويروي المؤَلّف أَحداثاً طريفةً خلال إِخراجه حلقاتِ شامل الإِذاعيةَ وبعضَ مسرحياته.
ثاني الأَربعة: الشاعر الشهير عُمَر الزعني، نجمُ بيروت الأَربعينات والخمسينات، ويراه المؤَلّف “بيروتياً بامتياز من أَعلى الرأْس حتى أَخمَص القدَمَين”، وقصيدتُه “يا ضيعانِك يا بـيروت” أَصدقُ تعبير عن وَلَهِ الشاعر بمديـنـتـه بل صرخةُ أَلَـمٍ واحتجاجٍ على ما أَصابَ بيروتَ من تَبَدُّلٍ في أَحوالها الاجتماعية والسياسية وهو يُـريدها نقيةً خالية من الشوائب، وفيها يقول:
“الجهّال حاكمين… والأَرذال عايمين… والأَنذال عايشين… والأَوادم عَمْتْمُوت… يا ضيعانِك يا بيروت“
وفي هذا الفصل سيرةُ الشاعر الجريء وما كان له من صِدامات مع الحكومة أَدّت به مراراً إِلى الاعتقال والسجن، لِـمَا كان شِعرُه مرآةً عاكسةً نبضَ المزاج الشعبي في بيروت. لذا سمّاه البيروتي الكبيرُ الآخَــر عمر فاخوري “شاعر العصر”.
الثالث في الكتاب: المؤَلف الموسيقيّ توفيق الباشا، يتذكّره المؤَلّف منذ ربيع 1955 على مسرح الفرير في بيروت رجلاً بالسموكن وقميص ناصع وياقةٍ مُنَشّاة وﭘـاﭘـيون سوداء وأَمامه ثلاثون عازفاً قادَهم بمعزوفات لعبدالوهاب وأُخرى من تأْليفه. ويروي المؤَلّف سيرة الباشا الطويلة ونضاله وكفاحه وصعوبات اعترضَت طريقه الفني وكيف تخلّى عن تلحين الأَغاني والقصائد والموشحات إِلى تأْليف موسيقي نأَى عنه الكثيرون من رفاقه، فترةَ كان الوعي الموسيقي في البلد ينمو بـبُطء. وثابر الباشا على هدفه حتى غدا مؤَلّفاً تعزف كلاسيكياتِه الأُوركستراتُ العالمية، وقائدَ أُوركسترا معروفاً بالحزم والجدية. وحين تولى رئاسة القسم الموسيقي في الإذاعة اللبنانية عزَّز شأْن الموسيقى وثَقَّف مستمعيها، وكان ركناً أَساسياً في فريق خماسي جمعَه إِلى عاصي ومنصور الرحباني وزكي ناصيف وتوفيق سكّر.
رابعُ الأَربعة في الكتاب: شوشو. وله في قلْب المؤَلِّف حنانٌ خاص وحنينٌ إِلى نحيلٍ أَهيفَ انقصف في مطلع ربيعه السادس والثلاثين بعدما ملأَ أَجواءَ لبنانَ الإِذاعة والتلـﭭـزيون والسينما والمسرح ضحكاتٍ شُوْشُوِيَّةً، وخلَّد اسمه مؤَسس أَوّل مسرح يومي في لبنان. وروى المؤَلِّف كيف كان يوماً في الإِذاعة مخرجَ حلقات برنامج “يا مدير” لـمحمد شامل الذي قال له إِنّ شاباً مهووساً بالفن يلاحقُه كي يعطيه دوراً ولو صغيراً في برنامجه، فإِذا به يقابل فتى ناحلاً خَجولاً شديدَ التهذيب يدعى حسن علاء الدين أَعطاه شامل دَوراً صغيراً في إِحدى حلقات “يا مدير” لكنه لم يحسِن تنفيذَه فكاد شامل وكريِّم يصرفانِه لولا تَــشَــبُّــثُــه وعنادُه في صقْل الدور حتى حَسَّن أَداءَه، ومنه انطلق إِلى حيثُ أَصبح بعد سنواتٍ ضئيلةٍ نجمَ الـﭭـودﭬـيل والكوميديا في لبنان والعالم العربي.
كتاب محمد كريِّم “كما عَــرفْــتُهُم” وثيقةٌ نابضةٌ بذكرياتٍ ووقائعَ يُضيفها إِلى كتُبِه السابقة “المسرح اللبناني في نصف قرن”، و”بيروت في البال” و”سيرة الأَخوين فليفل” ليسجِّل في ذاكرة الفن اللبناني العالي صورةً عن هذا الفَن تُشَــرِّف أَعلامَه وتُسعِدُ مُتَلَقِّيها.