ما كان مُـمكناً، في هذا البرنامج، تَنَاوُلُ كتُبٍ عن لبنان، من دون التوقُّف عند كتاب “قلب لبنان” لأَمين الريحاني.
وهو كتابٌ أَساسيٌّ للتعرُّف إِلى لبنان، تعدَّدَت طبعاتُه ودُورُ النشر التي أَصدَرتْهُ، لِما في مضمونه من إِشراقٍ على طبيعة لبنان وشعب لبنان وتاريخ لبنان قديمِه والحديث. ولم تكن مُصادفةً أَن يهدي الريحاني كتابَه إِلى لبناني آخرَ عريقٍ في التشبُّث بحضارة لبنان ودورِه: الشاعر شارل قرم.
فاتحةُ الكتاب رسالةٌ من ميخائيل نعيمه إِلى ناشر الكتاب أَلبرت الريحاني الذي عُنِي بآثارِ شقيقه الأَمين ونشرَها تباعاً، وبينها “قلب لبنان” الذي أَصدره سنة 1947، سبعَ سنوات بعد وفاة الأَمين. ومن كلمة نعيمه: “إِنّ لبنان الذي أَحبَّه أَمين حُباً يداني التقديس، يَسفِر في صفحات هذا الكتاب عن وجهه الحقيقي”.
هُوية الكتاب كما حدَّدها الريحاني: “سياحات قصيرة في جبالنا وتاريخنا”، وهي رحلاتٌ داخليةٌ قام بها الريحاني بين 1907 و1938، زائراً قُرىً وبلداتٍ وجبالاً، على صعوبة ما كانت عليه وسائلُ التنقُّل في تلك الأَيام.
الكتاب من تسع رحلاتٍ كاملة وستةِ تصاميمِ رحلاتٍ إِلى الشوف وجزّين ومرجعيون وجبل عامل تُوُفي الأَمين فلم يُتَمِّمْها.
مطلعُ الرحلات إِلى الأَرز على ظهر بغْلة محبوب، انطلاقاً من الفريكة فنهر الكلب فأَعالي كسروان مروراً بجبال جبيل وصولاً إِلى غابة الأَرز التي وَجَد فيها الريحاني “صفحةً من التاريخ، وبَخوراً في مبخرة الزمان”.
وتتابعَت رحلات الريحاني إِلى بيت شباب جارة الفريكة، فبكفيا فبتغرين فوادي الجماجم فبسكنتا فصنين فشخروب صديقه ميخائيل نعيمه، ثم إِلى زحلة وصوفر حيث حصلَت له الحادثة الشهيرة في الكازينو الكبير الذي سماه “القصر المنيف”.
وفصَّل رحلةً إِلى بلاد جبيل وأَرز جاج وما لاقاه من حفاوة استقبال وتكريم، وما عاينَه من سهرات فولكلورية ممتعة على ضوءِ قمَرٍ يرافق الساهرين في لَهْوِهم وَزَهْوِهم. وأَكمل إِلى اللقلوق فضهر البيدر فالبقاع الواسع. وفي رحلة أُخرى ذهب إِلى أَفقا فالعاقورة فيحشوش فوادي نهر أَدونيس الذي فيه اشتُهرت احتفالات الأَدونيسيات في الأَساطير القديمة عن عيد الـحب.
في رحلته إِلى عمشيت توقَّف طويلاً عند مكتشفات إِرنست رينان إِبّان تنقيباته وإِرسالِهِ قطَعاً أَثرية غالية من أَرضنا إِلى متحف اللوﭬــر حيث لا تزال حتى اليوم.
وكانت له رحلة إِلى غرزوز وجوارها: من الطوق الأَقدس إِلى صخرة الرويس إِلى سطح مار شربل فشيخان فكفيفان الحرديني فَــجْران خيرالله خيرالله.
وختام رحلاته الكاملة كان في غياهب الزمان مسترجعاً من التاريخ السحيق عراقة بيبلوس البيتِ الأَوّل والأَبجديةِ الأُولى ومجدِ فينيقيا ومملكةِ جبيل ومُلوكِها وقلعتِها وجوارِها وما فيها من آثار محفورة في صدر الزمان. وختم جولته بعبارةٍ لافتة: “بعد هذه الرحلة في غياهب الزمن وفي كتُب التاريخ والآثار، نَعود إِلى مرابع الشمس، إِلى الكتاب الأَوحد الخالد، إِلى أَجمل فصوله: إِلى لبنان.
كتاب “قلب لبنان” لأَمين الريحاني خُــبْــزٌ لازمٌ لِـجيلِنا الجديد يَكتشفُ فيه كَبيرَين: وطناً بحجْم القلب ينبُض وسْعَ الدنيا، وكاتباً تَوَلَّه بوطنِه حتى بات، هو الآخَر، نَبضةً ساطعةً من قلب لبنان.
___________________________