إِذا كان لافتاً أَن يَستنكر رؤَساءُ كُبرى الدُّوَل جريمة “شارلي إِبْدو” الأُسبوعية الفرنسية الساخرة، أَردَت رئيس تحريرها وأَربعة من رساميها البارعين، فاللافتُ الأَكثرُ دَلالةً استنكارٌ من القاهرة بتوقيع الأَزهر الشريف وجامعة الدول العربية، ومن ﭘــاريس بصوت إِمامها الغاضب وإِمام مدينة درانسي الذي انهال على القتَلة: “لم ينتَقِموا للرسول محمد بل لرسولهم هُم، رسولِ الحقد والانتقام والإِجرام”.
هو التعصُّبُ الأَعمى مرةً أُخرى “ينتقم” والدينُ سَماح، و”يَقتل” والدينُ إِحياء، و”يُـجْرم” والدينُ محبّة. يرتجلون دوراً لهم لم يمنحهم إِياه أَحَد وبه يغتالون مهمِلين قول الله تعالى: “مَنْ قَتلَ نَفْسًا بِغيرِ نَفْسٍ أَو فَسادٍ في الأَرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناسَ جَمِيعًا…” (المائدة:32)، ويَحملون الإِيمان سِلاحاً إِلى الانتقام مهمِلين ما جاء في الإنجيل: “ظُهُورُ يَسوع الـمَسِيحِ أَبْطَلَ الْموتَ وأَنَارَ الحياةَ والخلود” (يوحنا ٢:٢٥).
من نَصَّب هؤلاء المجرمين رُسُلَ لله أَو محامي المسيحية أَو حُماةَ الإِسلام، لا القرآن يرضاهم ولا الإِنجيل يَقْبلهم ولا الله يريدهم في ملكوته!
المراجع الإِسلامية العليا تُعلِن تَــبَــرُّؤَها من هؤُلاء الطائحين الـمُرتَـجلي أَفعالاً جُرميةً بشعارات إِسلامية.
وهوذا البابا فرنسيس يُعلِنُ إِصلاحاً في الكنيسة الكاثوليكية يطالُ، أَوّل من يطال، رجالَ إِكليروس ذوي مناصبَ كهنوتيةٍ متقدِّمةٍ يستغلُّون ثوبهم لـمُبالغاتٍ ومُغالَياتٍ وانتهاكات، قبل أَن يَــنْــثُــر على المسيحيين في العالم رسالةَ مَن يُـمـثِّــلُه على الأَرض: مسيح المحبة والغفران، مسيح القيامة من الموت.
ومِن أَهل الدين المسؤُولين إِلى العَلمانيين المتنوِّرين في دعوتهم إلى نبْذ التعصُّب الديني، يحضرني هنا رأْي ميخائيل نعيمه على لسان “مرداد”: “لو فَهِم المؤمنون بالدّين جوهرَ دينهم وغايته العليا، لَتَوَحَّدَ العالم كلُّه في دين واحد”.
ويحضرني رأْيٌ مماثل من جبران: “لو كان لنا أَن نُلغي غير الجوهري من الديانات المختلفة، لوجدنا أَننا متَّحدون بإِيمان واحد ودين واحد غنيٍّ بالأُخوّة”.
ويحضرني رأْي أَمين الريحاني على لسان “خالد”: “في كل دين من أَديان العالم نُور يُضيءُ إِلى حين، ولا ينطفئُ قبل أَن يسطع مكانه نورٌ آخر”. وأَتذكّر خطاب الريحاني عن “التساهل الديني”: “الطوائف الدينية كثيرة ولا شأْنَ لها في السياسة والوطنية. لكل دينٍ حقُّه في البقاء ولا يحقُّ لِدينٍ أَن يُبِيدَ ديناً آخرَ بالقوَّة” (نيويورك سنة 1900).
وبين هؤَلاء العَلمانيين اللبنانيين وعَلمانيين فرنسيين سقطوا ضحايا السُّخرية لا التهجُّم، يبقى التعصُّب الأَعمى عنوان هذا القرن الذي يغزو كواكب الفضاء، وإِنسانُهُ على الأَرض لم يبلُغ بعدُ قلبَ أَخيه الإِنسان.