“ليس على جاري العادة أَن تَطلُب مؤَسسةٌ أَمْنيَّة تَدوين سيرتها أَو بعضِها، ولا أَن يكتبَها مَن لا يمُتّ بِصِلَةٍ إلى مِلاكها. فأَجهزة الاستخبارات تقِف على نقيضٍ من تاريخها، لكثرة ما لديها تَحْجُبه وتَمنعُ الوصول إِليه. لكنها المرةُ الأُولى تُكتَب قصةُ إِدارةٍ أَمنيّة بطلَبٍ منها، ويُطلَق لكاتبِها سَردُ ما عاينَهُ فلا يذهبُ نصُّهُ إِلى رقيبٍ يصحّح أَو يعدّل أَو يشطُب ما لا يقتضي أَن يُعْلَم“.
بهذه المعلومة مهَّد الصحافي نقولا ناصيف لكتابه الجديد “سِرُّ الدولة – فصولٌ من تاريخ الأَمن العام” مُوضِحاً أَنّ المدير العام الحالي للأَمن العام اللواء عباس ابرهيم هو الذي طَـلَب منه كتاباً بـجُزءٍ أَولّ عن سيرة الأَمن العام بناءً وتأْسيساً وتطوُّراً ورجالاً أَوائل بين 1945 و1977، على أَن يليه جُزءٌ آخَرُ للفترة اللاحقة حتى اليوم.
وهو ما أَكّده اللواء ابرهيم في مقدِّمة الكتاب معتبراً إِياه “سِفْراً ثميناً يَشهَد بالتواريخ والأَرقام والأَسماء والأَحداث والوقائع لقاماتٍ تولّت الأَمن العام واتَّسَــمَت بصدْق الوطنية وَوُضوح الولاء وصلابة الالتزام وسِعَة العلم وحِدّة الذكاء وقُدرة الإِحاطة بموقع الأَمن العام ودَوره الظاهر والمُضْمر، وعلاقتِه بسياسات المراحل والرؤَساء وقدرة أَركانه في فَكّ الأَلغاز وربط النتائِج بالأَسباب“.
ويوضِح المؤلف نقولا ناصيف أَنّ كتابَه لا يتوخّى كشْفَ أَسرار الدولة بل يَروي قصة مؤَسَّسةٍ هي سِرٌّ مُقيمٌ في الدولة، وما في ثناياه من ملفّات خاصة، وأَوراقِ تَنَصُّتٍ، وتقاريرِ مُـخْبرين، ومَـحاضرِ اجتماعاتِ زعماء وسياسيين وأَحزاب، ووثائقَ عربيةٍ وأَجنبيةٍ متبادَلَة، ومحفوظات وطنية وأَجنبية.
بهذا المنطق التأْليفي المسؤول شَكَّل نقولا ناصيف كتابَه الوثائقي بَدءاً من صدور المرسوم 3653، تاريخ 26 تموز 1945، وقّعه الرئيسُ بشارة الخوري ورئيسُ الحكومة عبدالحميد كرامي ووزيرُ الداخلية وديع نعيم بإِنشاء “مصلحة الأَمن العام” في وزارة الداخلية، وتعيينِ إِدوار أَبو جودة مديراً لها بعد رئاسته الـﭙـوليس العدلي في مديرية الشرطة. وكان له دَورٌ تأْسيسيٌّ لم يَطُل أَمَدُهُ لأَن مرسوماً آخرَ صدَر سنة 1948 بتعيـينه مديراً عاماً لوزارة التربية الوطنية الفنون الجميلة.
بعدَه تسلَّمَ الأَمنَ العام مَن جاء هو أَيضاً من الـﭙـوليس العدلي في مديرية الشرطة: فريد شهاب، فترَأَّس المديريةَ العامة عشْرَ سنوات من 1948 إِلى 1958، ليَليه العقيد توفيق جلبوط ستّ سنوات حتى 1964، وبعدَه جوزف سلامة إِلى 1971، وُصُولاً إِلى العقيد الركْن أَنطوان دحداح حتى سنة 1977 تاريخِ انتهاء الجُزء الأَوَّل من هذا الكتاب.
وفي كلّ سيرةٍ من الخمسة المديرين مَوَاقفُ لهم مُشَرِّفة، وإِنجازاتٌ مُـحترِفة، وتطويرٌ متواصلٌ للأَمن العام بَشَرياً ولوجستياً، مع وثائقَ وصُوَرٍ لـولاية كلٍّ منهم، تَشهَد جميعُها على جُهدِهم في حفْظ أَمن لبنان والسهَر على الوطن والمواطنين، ما يَجعلُ هذا الكتاب “سِرّ الدولة – فصولٌ من تاريخ الأَمن العام“، بأُسلوبه الروائي التوثيقي التشويقي النابض، مأْثَرَةً جديدةً تضافُ إِلى عِمارة التأْريخ اللبناني الحديث، وإِلى كتُبٍ سابقةٍ وضَعَها نقولا ناصيف، ووَثَّق فيها أَعلاماً ومعالِـمَ هي في الصَّدارة من أَركان تاريخنا المعاصر.
__________________________________