قبل أَن أَدخلَت منظمةُ الأُونسكو وادي قاديشا سنة 1998 مَعْلَماً لبنانياً خامساً على لائحة التراث العالَـمي، كان يواصل حضورَه في لبنان مَوقعاً سياحياً أَساسياً، وتاريخياً نادراً، وروحياً ذا هَيــبــةٍ خاصة.
ويكون أَن تَشُعَّ شمس الوادي المقدَّس على شمال لبنان، غامرةً غِناهُ بالـمَعالم والأَعلام في كلّ حقل معرفـيّ. وإِذا المعالِـم تَغْنَم منها السياحة، فالأَعلام يَغْنَمُ منهم تراثُ لبنان الفكريُّ والأَدبيُّ والفنيُّ والروحانـيّ.
أَحدثُ ما ظَهَر عن هؤُلاء الأَعلام: كتابُ الشاعر جوزف أَبي ضاهر “تحت شمس الوادي المقدَّس“، مرجِعاً بيوغرافياً في 160 صفحة حجماً وسطاً، هو جُــزءٌ أَوّلُ صدَر قبل أُسبوعين في سلسلة منشورات “رابطة قنوبين للرسالة والتراث”.
عشرةُ أَعلام من هذا الشمال اللبناني رسَم لهم جوزف أَبي ضاهر خطاً بَـيانياً يتلاقى مع سائر الخطوط الإِبداعية في الجنوب اللبناني والبقاع وبيروت، فينطلقُ بهم لبنان في إِرثٍ حضاريٍ ثريّ.
أَولُ العشرة ترتيباً كرونولوجياً بحسب تاريخ غيابهم: الخوري ميخائيل الغزيري عالِـم الفلسفة واللاهوت، رائد الاستشراق في القرن الثامن عشر، مدرِّس اللغة العربية في روما ثم في مدريد، إِلى أَن كلّفه الملك فرديناندو السادس دراسةَ المخطوطات العربية في مكتبة الإِسكوريــال فكان فيها رائد الاستعراب الإِســﭙــاني.
يليه في الكتاب الأَديبُ واللغوي حسيب غالب ابن أَردة في قضاء زغرتا، مدرِّس الأَدب العربي ومُـخَــرِّج عددٍ كبير من التلامذة الذين عشقوا العربية من صفوف أُستاذهم الذي نشَر قصائده وكتاباته في صحافة الشِمال وغاب دون كتاب له مطبوع.
ثم ها هو حبيب مسعود ابن الخالدية قرب زغرتا، أَحد أَركان “العصبة الأَندلسية” ورئيس تحرير مجلّتها سنة 1934 في البرازيل، واضعُ الكتاب الشهير “جبران حياً وميتاً” وفيه معلومات جبران باتت مرجعاً لـمعظم مَن كتبوا لاحقاً عن صاحب “النبي”، وله أَيضاً كتاب “ما أَجملَك يا لبنان” وفيه نصوصُ مؤْتمر الأُونسكو الذي انعقد في بيروت سنة 1948.
ومن أَعلام الكتاب كذلك: يوسف يونس مدرِّس اللغة العربية والبلاغة والعروض في غير مدرسة شِمالية، وهو والد الشاعر يونس الابن الذي له أَيضاً في الكتاب فصلٌ خاص لكتاباته وقصائده ونشاطه الصحافي ونتاجه الأَدبي العام.
ويطالعُنا في الكتاب جورج اسحق الخوري ابن كفرشَخْنا زغرتا، مؤَسس مجلة “الأَفكار” سنة 1938 وأَحد مؤَسسي “الرابطة الأَدبية الشمالية” ومُـمثّل صحافة الأَقاليم في نقابة الصحافة اللبنانية. ويليه الروائي والكاتب الأَب ميخائيل معوض صاحب القصة الشهيرة “الخطيئة البيضاء” وأَحد مؤَسسي الحركة الثقافية – أنطلياس و”مجلس المتن الشمالي للثقافة”.
وها نحن في سبعل مع شاعرها أَسعد السبعلي أَحد أَرَكان الزجل اللبناني، مؤَسس الجريدة الزجلية “السبعلي” سنة 1938، وأَحد مؤسسي “عصبة الشعر اللبناني” سنة 1940.
ومن سبعل كذلك الشاعر يوسف روحانا الذي اغترب إِلى المهجر الأَميركي وفيه أَنتج شعراً زجلياً وفيراً، وكانت له في جريدة “الهدى” النيويوركية زاويةٌ استمرّت سنواتٍ، وكان لها وقع بالغ في نفوس المغتربين اللبنانيين طيلة النصف الآخر من القرن الماضي.
وختام الكتاب للمخرج الكبير يعقوب الشدراوي ابن زغرتا الذي ترك في المسرح اللبناني بصمةً لافتة بأَعماله منذ “أَعرب ما يلي” سنة 1970 مروراً بأَعماله من جبران وميخائيل نعَيمه ومحمد الماغوط وُصُولاً إِلى… “بَلا لعْب يا ولاد” صرختِه الأَخيرة ضدّ مَن حكَموا لبنان وأَوصلُوه إلى هذا الوضع.
كتاب جوزف أَبي ضاهر “تحت شمس الوادي المقدَّس“، مرجِعٌ بُذُورُه في شمال لبنان لكنه ينفتح، كشمس لبنان، على كلّ هذا الوطن الذي، كَوَادي قنوبين، يَغُوص عميقاً على الجذور، وينطلق عالياً لــيَطوف تراثُهُ على شموس العالم.
______________________________