أزرار- الحلقة 869
“… اكسِــرني على ثَــرى بلادي”
السبت 29 تشرين الثاني 2014

 

        غيابُه الأَخير أَمس مدخلٌ إِلى حضوره الدائم غداً.

          هو الذي مـدّ نتاجه على قرن كامل، كان في كل لـمحةٍ من هذا النتاج يتطلّع إِلى ما سيبقى للأَجيال التي ستأْتي.

          هـمُّه كان أَن يُعَرّفها إِلى لبنان، لبنان الحقيقة، لبنان الحضارة، لبنان الإِرث الأَوسع من جغرافيا والأَهمّ من ديموغرافيا، لبنان “الموطن الصغير الذي يَــرُود الأَرض” لا بالعابر فيه من الآنيّات بل بالبواقي فيه من الثوابت ذات القِـيَم.

          جناحان اعتمدَهما حياتَه: لبنان والشعر. بهما لم يحلّق وحده بل حمَلاهما فيه ذخراً عَمِلَ له طيلة حياته. أَراد أَن يُبرز لبنان “لا أَيما وطن”، أَراده وطنَ مَن هُم مُعلّمو معلّمي العالم، وطنَ العناوين الحضارية الثلاثة: كتاب “العناصر” لأُقليد ابن صور، بعلبك الأُعجوبة الخالدة على أَرض لبنان، والأَبجدية التي نشرها في العالم قدموس ابنُ صور وهي باتت أُمَّ الأَبجديات. وأَراده وطن المدن اللبنانية السبع التي فيها ركائز الفكر: طرابلس “أَوّل أُمَم متحدة في التاريخ”، بيروت مدينة الشرائع الأُولى، صيدا مدينة موخوس مكتشف الذرّة التي تتجزأ، صور العظيمة التي أَرّخت عنوان التاريخ، بعلبك “خيمياء الجمال في العالم”، وقانا التي فيها تمّت الأُعجوبة الأُولى لـلّذي حوَّل الماء إِلى خمر فكان أَن دخل لبنان إِنساناً وخرَجَ منه إِلهاً و…”آمَنَ به تلامذتُه”.

          أَما الشعر، وهو نبْضُ حياته، فكان منه الشريان الأَساس وكان فيه النابض الذي لم يهدأْ. منذ مطالعه أَطلّ مغايراً وأَحدَثَ في أَوساط بيروتَ الثلاثينات هـزّةً كبرى جعلَت “أَن يتأَثَّــر به الأَكبرُ منه سناً” على ما ردَّد مراراً فؤاد افرام البستاني.

أَراد شعره رسالةً لا امتهانَ نظم: “كتبتُ الشعر لتثقيف الأَجيال به. قصائدي مقصودةٌ لإِيصال رسالةٍ جمالية أَو فكرية أَو فلسفية أَو علمية. الشعرُ افتعالٌ لهدفٍ معين. كلُّ فن صناعة، وعلى الفنان أَن يشتغله بتؤَدة لا أَن يترك الفكرة على سجيّتها. العمل الفني ليس نتيجة تلْقاءٍ جاء كما هو. الفن أَن تصقُله جيداً حتى يبدو عفوياً فيما هو نتيجةُ عناءٍ يُضني من الصقل”.

          بهذا يكون غادرَنا وهو تارك فينا إِرثاً غنياً بـــ”كيف نَعي لبنان” و”كيف نَفهم الشعر”. ومتى بلغْنا ذينك الجناحَين اعتلَينا مرتبة من الحضارة غيرَ زائلة.

          سعيد عقل، في وداعه نستعيدُ معه كلماتِه في الغياب، بعيداً عن البكائية الرخوة، قريباً من الفرح الساطع:

                             “يوجعُني أَني سأَمضي وشبابي والأَملْ

                             أَحمل غابتي معي وسنديانــاً وقُـــلَــلْ

                             أَرضُ بلادي وحدَها تبقى وديوانُ غزَل”.

          ونستعيد منه وصيته الأَخيرة:

                             “شِلْحُ زنــبَــقٍ أَنا اكسِرني على ثَــرى بلادي”.