سعيد عقل

لقاء تلفزيونيّ في برنامج “بلا طول سيرة” (الثلاثاء- 2 كانون الأول 2014)

*******************************************

يبقى النص… وهو الجوهر

          في وداعه نستقبله دخلَ اللحظة التي لا تذوي.

          نتاجه الوفير نثراً وشعراً باقٍ لهذه اللحظة بالذات: أن نقرأَه في غياب صاحبه فيبقى في وهج الحضور.

          سوى أنه يصعب: هذا أدب ليس بالعابر من التعبير بل في المصقول من التركيب، من هنا جِدّته في النسج التأليفي: “الأدب ليس ماذا نكتب، بل كيف نكتب ماذا”.

          ووهجُ الأَدب الباقي هو في الصقل الذي يميّز كاتباً عن آخر وشاعراً عن سواه.

          سعيد عقل لم “يرتكب” النظم مرةً ولا “استسهل” السرد. بقي شعره سبكاً متيناً ونثره نسجاً مَكيناً.

شِعرُه والنثر من مقلع واحد: الجماليا. بالإِزميل نفسه ينقُش القصيدةَ والقطعة النثرية. ومن تسنى له مثلي أن يرى مخطوطة له، يَدُوخ في محاولة قراءتها: هنا كلمات مشطوبة مرة ومصحَّحة مرات ومعدلة مراراً حتى لتغدو مخطوطته خارطة يستحيل أن يفك رموزها سواه. ذلك أنه “يعاني” فعل الكتابة، شعريَّها والنثريّ، وبذلك يؤسس للنص في متانة، فيبقى على الدوام.

          للكلمة عنده حرمة مثلما للمرأة. وكما لم يكن يستهين بالمرأة فيتغزل بها ساميةً راقيةً منـزّهةً عن كل عيب، كان يتعامل مع الكلمة بهذه الأَناقة التي تجعل الكلمات بهية جميلة كالحبيبة البهية الجميلة.

لا فرق لديه بين نثر وشعر. “كلاهما فن عظيم”، ويشدِّد: “نُهين النثر إِذا قاربناه من الشعر، ونُهين الشعر إِذا قلناه منثوراً”. لذا يُتقن نثرَه إِتقانَه شعرَه. وهذا ما دفع سعيد تقي الدين إِلى القول عنه إِنه “بين أَعظم من كَتَب النثر في العربية”.

يُعرِّفه الكثيرون بــ”الشاعر”. لكنّ الشعر سنبلةٌ واحدةٌ من بيدره الكثير. ربما الأَبرز، لكنها ليست الوحيدة.

منذ عرفتُه سنة 1972، وأَنا أُتابعه يتجدَّد لا يتوقّف. يواصل الطريق والاكتشاف. لا صفاؤُه تغيَّر ولا نشاطُه. دائماً يأْتي من صِفْر الذاكرة إِلى امتلاء الحضور.

لا يغيب عن باله اسمٌ ولا رقم. من أَقدم تاريخ إِلى أَحدث رقم. من أَول الأَزمنة إِلى آخر الإِحصاءات. يقارع المؤَرخين بالوقائع، والسياسيين بالحجَج، و”يَصدُم بالأَرقام” كما قال عنه غسان تويني.

والأَرقام تعني العِلْم. من هنا يقول، وهو من هو في الشعر: “العلْم وراء كلّ تحفة عظيمة. لا تسحرُني قصيدةٌ كما يسحرني اكتشافٌ علمي. حتى الشعر هو ابن العلْم. العلْم يعصمُ من الشرود في القصيدة فتبقى في موضوعها. حين أَتعَبُ من الكتابة أَقرأُ في كتُب علمية”. من هنا أَنّ في شعره باقات فضائل وعواطف ومُثُل عليا، غزَلاً كانت أَم استذكاراً أَم قولةَ تكريم، لترتدي القصيدة أَبهى الأَفكار وأَنبل العواطف.

في وداعه، يبدأ التطلّع إلى نصه كوحدة أدبية، وإخال المقبلين على دراسته سيتَّحدون بالنص دون الشخص، وهو ما يجب أن يتم في المناهج الدراسية، ثانويها والجامعي، ليكون شعره والنثر علامة من أركان هذا العصر اللبناني الذي ينتسب إليه سعيد عقل وينسبه إلى القيم، ففي كل نص من سعيد عقل جرعة من قيمة أخلاقية أو وطنية أو معرفية.

مع غيابه، نتطلع إلى من كانوا يجادلونه لكنهم بنبالتهم يحترمون شعره. وهو أَحبّهم حميعاً.

يبقى الشعر، وهو الأساس. وهو الجوهر. وسعيد عقل كان دائماً، وسيبقى نتاجه بعده، مع الجوهر.

الجوهر الذي ليس إلى جدال.

(“السفير”- السبت 269 تشرين الثاني 2014)

__________________________________________

علامتُه في الغياب نتاجُه في الحضور

           مع غيابه اليوم، يبقى حضوره في النتاج.

في مطلع حياتي الأَدبية، كنتُ أُتابع الأَدبَ اللبناني بأَبرز أَعلامه شعراً ونثراً. لم أَطالع نصوصَهم أُفقياً، بل توغّلتُ في نسيج النص، أَتبيّن ارتداءَ الفكرةِ أُسلوباً، أَو الصورةِ تعبيراً، أَو المعنى تركيباً، كي أَبحَثَ لدى كلّ أَديب أَو شاعر عن هُويّـتِه الأَدبـية، واشتغالِه على النص لا باعتماد اللغةِ وسيلةً لنقلِ المضمون، بل غايةً في ذاتها تَجعل المضمون أَنقى وأَبقى، فيبتعدُ الناثر عن السرد البارد ويباعدُ الشاعر عن النظم المقنَّع بالوزن والتفاعيل.

نادراً ما وجدتُ لدى أُدبائنا وشُعرائنا اهتماماً بالتركيب اهتمامَهم بالصورة والمعنى والمضمون.

ونادراً ما وجدتُ لدى سعيد عقل نصاً ذا صورةٍ ومعنى ومضمونٍ دون العناية بالتركيب.

وبعدما فــتَّحْتُ عُــرَى أُسلوبه دُربةً دُربةً بُلوغاً إِلى أَدواته اللغوية، كما نفتّح الوردةَ بتلةً بتلةً وصولاً إِلى ينبوع العَــبَــق، رحتُ أُعيد قراءةَ نثره (“كتاب الورد”، لبنان إِن حكى”، “كأْس لـخمر”، …) وقراءةَ شِعره (“بنت يفتاح”، “قدموس”، المجدلية”، “رندلى”، أَجمل منك؟ لا”، …) فأَستسيغُ نصَّه أَكثر، لأَنني بِـتُّ أَجيءُ النص وأَنا عالـمٌ بمفاتيح تراكيبه، مدركٌ ثناياها ونسْجَها، متـبـيّـناً كيف شاعريتُه تَلِدُ القصائدَ وتجترحُ النثر.

          منذئذٍ رحتُ، بمعرفةٍ أَعمق، أُتابع مُحاضراتِه وأُمسياتِه، مراقباً تفكيرَه ومنطِقَه وآراءَه في أُمورٍ إِبداعيةٍ وشُؤُونٍ وطنيةٍ وإِضاءاتٍ لبنانية.

إِلى هذا الحدّ كنتُ بلغتُ من معرفتي أَسرارَ فنّه الأَدبي حين قضيتُ معه ساعاتِ عمَلٍ بَلَغَتِ الـمِئَة: خمسين في بيته (سنة 1993) قطَفْتُ منه ما كشَفَهُ لأَول مرة في حياته عن مراحلَ رئيسةٍ في حياته، نشرتُها لاحقاً في كتابي “سعيد عقل إِن حكى”، وقضيتُ الخمسين الأُخرى (سنة 2006) أَمام كاميرا “تلـﭭـزيون لبنان” حادَثْتُهُ في برنامجِي “سعيد عقل إِن حكى” سحابةَ خمسينَ حلقةً تلـﭭـزيونيةً نشرَ منها على الـمُشاهدين في لبنان والعالم أَفكارَه في مسائلَ فكريةٍ وعلْميةٍ وأَدبيةٍ ووطنيةٍ وحضاريةٍ وتاريخية، وشرَحَ في بعضِها قصائدَ له أَوصلَت مفاصلَ شاعريته إِلى قُــرّائها أَمتعَ استساغاً.

مئةُ ساعةٍ قضيتُها مع سعيد عقل تدويناً خطياً أَو تصويراً تلڤزيونياً، لعلّها بين أَمتَع الساعات في مسيرتي الأَدبية.

أَن أَكونَ صديقَ سعيد عقل منذ 1972 وأُتابعَ بعض جلساته الأَدبية والشعرية وأَقرأَ نتاجه، أَمرٌ قد يكون عادياً، لكنّ غير العاديّ أَن تكون لي فرصةُ محاورتِه أَدبياً طيلة 100 ساعة استخلصتُ خلالها للقرّاء فالمشاهدين مسيرةً وأَفكاراً لهذا الشاعر الذي يملأُ عصْرَنا شِعراً ولُبناناً.

“سعيد عقل إِن حكى”…

وهو حكى ما سيبقى لجيلِنا وأَجيالِنا المقبلة ذُخراً أَدبياً وفكْرياً وحضارياً عن لبنان من شاعرٍ نَذَرَ نتاجَ فكرِه وقلمِه من أَجل لبنان.

(“المستقبل”- السبت 29 تشرين الثاني 2014)