___________________________
مركز التراث اللبناني يــتــذَكَّــر الأَخَـوَيـن فـلـيـفـل
افتتح “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية موسمه الجديد بلقاءٍ عن الأخوين فليفل، شارك فيه الباحثان أمين فرشوخ ومحمد كريِّم والفنان أحمد قعبور، في حضور ممثّل الوزير محمد المشنوق السيد يوسف دوغان، محافظ جبل لبنان فؤاد فليفل وأبناء محمد فليفل: حسّان وجمال وأُسامة، ورئيس الجامعة الدكتور جوزف جبرا والوزير السابق محمد يوسف بيضون ورئيس جمعية “عِرَب” باسل قاسم وحشد كثيف من قادري فنّ الأخوين.
افتتح اللقاء مدير المركز الشاعر هنري زغيب بكلمةٍ أعلنَ فيها برنامج الموسم الجديد وركّز على دور الأخوين فليفل ورسالتهما الموسيقية التي تخطّت العمل الموسيقي إلى النّهج التربوي والإنساني والوطني.
فرشوخ: نفتقدُ اليوم حسّهُما الوطنيّ
الدكتور أمين فرشوخ تحدّث عن أَبعاد أَنـاشيدِهِما تَـربوياً، اجتماعياً، وطنياً، فذكر أنه تتلمَذ في دار المعلّمين على محمد فليفل وما تركه من أثر في نفوس طلاّبه: “كنتُ محظوظاً إذ درّسني الكبير محمد فليفل. كان يردّد كلمات أناشيده بفخر وثقة واعتزاز، فينقل إلينا أحاسيسه ونحن نرفع أصواتنا، نضجّ، نحرّك أيدينا مع اللحن، ونضرب بأقدامنا مع الإيقاع، فتدخل الكلمات في قلوبنا، لنتوحّد كلّنا طلاّباً من بيئات وأديان ومذاهب وطبقات وفئات… ونكاد نخرج من أنفسنا لنسير وراء محمد فليفل، لو شاء، كي نقتلع البغض من قلوب آخرين، أو نزرع الحب في قلوب سواهم، أو لنقاتل في سبيل قضية الوطن، أو الاستقلال، أو العلم، أو البيئة، أو الأم، أو الأرض، أو الجندي، أو الفدائي، أو الكشاف، أو المستقبل…”.
وفي استخلاصه أنّ “ترداد الأناشيد يؤصل فينا المعاني السامية والأبعاد الأخلاقية، فنعيّد مع المسيحي ومع المسلم، ونشعر بأننا جميعاً مؤمنون وشركاء في الحياة، في الوطن، وبأننا نعيش معاً، فنكبر بلا إحساس بفروقات مانعة من التحاب، أو التواد…”.
وختم فرشوخ بأننا اليوم “في حاجة ماسّة إلى ما يرسّخ هذه القِيَم والشعائر الوطنية في نفوس أطفالنا وشبابنا، نفتقد إليها في المناهج، وفي ذاكرة المسؤولين، وفي انتماء بعض المربين. أين التدريب العسكري الموحّد أو بديله التنموي الذي كان يساهم مع المتطوعين في خدمة كل المدن، وكل الأرياف اللبنانية، والذي نصّ عليه القانون، للطلاب الثانويين في كل لبنان؟ أين تدريس مادة التربية المدنية الذي كان معتمداً في الصفوف المتوسطة كما كنّا ندرسها؟”.
كريِّم: ملامح من سيرة
الباحث المخرج محمد كريِّم تحدّث عن الأَخَــوين فـلـيـفِـل سِـيـرةً ونِــتــاجــاً، وكيفَ “تجلى ولعهما المبكر بالموسيقى بما أبدياه من تعلق بالفرق الموسيقية العسكرية العثمانية التي كانت تجوب شوارع بيروت تعزف الألحان العسكرية، فينتظران مرورها من أمام منزلهما الأبوي بفرح ولهفة. ولم يكتفيا بهذه المتعة العابرة بل كانا يرافقان الفرق إلى منطقة السيوفي حيث تُعزف المقطوعات الموسيقية والمارشات العسكرية التركية. فأخذا يُلحّان على والدهما لاصطحابهما إلى الحدائق العامة في ضواحي بيروت، ليتمتّعا بما كانت تعزفه من ألحان في مواعيد ثابتة، يوميْ الجمعة والأحد من كل أسبوع في منشية فرن الشباك وجنينة جسر الباشا في حضور المتصرف العثماني شخصياً”.
وروى كريِّم كيف تحدّيا الظروف الصعبة وأسّسا فرقةً للأناشيد الوطنية باسم “فرقة موسيقى الأفراح الوطنية” راحت تطوف شوارع العاصمة في المناسبات الوطنية والأعياد الدينية. ثمّ أسّسا موسيقى الدّرك سنة 1942 وانطلقا في كتابة وتلحين الأناشيد الوطنية والقومية إذ “وجدا نفسيهما منساقين بل مطالبين بضخ المزيد من أناشيدهما التي تذكي الروح الوطنية وتُعَبئها للوقوف في وجه الاحتلال، فعكفا على تلحين عدد كبير من الأناشيد الوطنية لشعراء كبار أمثال: الأخطل الصغير، ابراهيم طوقان، سعيد عقل، عمر أبو ريشة، معروف الرصافي، أمين تقي الدين، شبلي الملاط، سابا زريق، عبد الحليم الحجار وفخري البارودي”.
قعبور: استشهادات صوتية
الفنان أحمد قعبور قدَّم قراءة موسيقية في نتاجِهما، شارحاً تقنية تلحين النشيد، وكيف اعتمد الأخوان فليفل التقطيع الصوتيّ الأجنبيّ وطبّقاهُ على ألحانهما العربية، فجاءا بالجديد الذي لم يكن مألوفاً. وفي أثناء حديثه أخذ الفنان قعبور يؤدّي بصوته نماذج موسيقيةً من أعمال الأخوين فليفل، وكيف بلغا فيها مرتبةً فريدةً من نوعها، بإمكان عزف ألحانهما على الإيقاع العسكريّ المعروف كما على الإيقاع الطربيّ العاديّ. وكان لاستشهادات أحمد قعبور الصوتية أثــرٌ جليٌّ في إيضاح فنّ الأخوين فليفل وتِقنيتهما الموسيقية، إلى جانب تأثيرهما في الناشئة من خلال أناشيدهما التربوية وبينها أناشيد مخصصة للأطفال.
__________________________________________
الدكتور أمين فرشوخ: أبعاد أناشيدهما… تربوياً، اجتماعياً، وطنياً
متعة كبيرة أن نفتّش عن البدايات مندهشين معجبين بالفاتح الأول، بالرائد، بالقدوة، خصوصاً في المجالات الفكرية، لما تنطوي عليه البدايات من تحدّ وجرأة وتصميم واقتحام. فإذا عدنا إلى ذاكرتنا (أولاً بأنانيةٍ لنشعر بالدفء، فمـن ليس لديه ذاكرة يبــــرد ويمرض ويا تعسَ بلد بدون ذاكرة لأنه بلد يعيش ولا يحيا)، نعود إلى ذاكرتنا لننبش منها الأسباب والظروف وما شابه ممّا جعلنا (نحن على الأقل) منتمين إلى الوطن، منتمين إلى ثوابت أخلاقية ومدنية حضارية. هذه العناصر الثابتة صارت في لاشعورنا، ونحن لا نفحص دمنا كل يوم، أو مع كل حدث، لنعرف مدى وطنيتنا، أو تمسّكنا بهذه القيم المشتركة.
حين التقى أمين الريحاني يوماً عمر الزعني، الشاعر الشعبي البيروتي، قال له: “أنت لست بشاعر، أنت مُرَبٍّ”. فاختصر في عبارته القصيرة هذه دور الشاعر المثقف، ودور المروّج للكلمة الطيبة في التربية وبناء الإنسان.
أنا كنتُ محظوظاً أن يكون درّسني الكبير محمد فليفل. كان يقف أمامنا في دار المعلمين، منتصباً يردّد كلمات أناشيده بفخر، بثقة واعتزاز، فينقل إلينا مباشرة أحاسيسه ونحن نرفع أصواتنا، نضجّ، نحرّك أيدينا مع اللحن، ونضرب بأقدامنا مع الإيقاع، فتدخل في دمائنا الكلمات التي ننشدها وتجري في قلوبنا لنتوحّد كلنا، نحن الطلاّب من بيئات وأديان ومذاهب وطبقات وفئات، نتوحّد ونكاد نخرج من أنفسنا لنسير وراء محمد فليفل لو شاء، لنقتلع البغض من قلوب آخرين، أو لنزرع الحب في قلوب آخرين، أو لنقاتل في سبيل قضية الوطن أو الاستقلال أو العلم أو البيئة أو الأم أو الجدّة أو الأرض أو الجندي أو الفدائي أو الكشاف أو المستقبل.
التربية عادة. وفي علم النفس التربوي أن القيَم تُزرع في الإنسان، خصوصاً على مقاعد الدراسة بالقدوة، بالتكرار وبالتجربة. وهذا ما دأبنا عليه مع أناشيد فليفل، نتبين منها القيم التربوية فيها: سواء في الكتاب الممزق القديم “أناشيد فليفل” أو في كتاب “اللحن الثائر” الصادر حديثاً.
كنتُ أنشد للشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي:
أنا في الصبـــــح تلميذ وبعـــــد الظهــــــر نجّار
فــلي قلـــم وقرطــــاس وإزميـــــل ومنشــــــار
وعلمي إن يكن شرفاً فما في صنعتي عار
فللعلماء مرتبـــــــة وللصنــــاع مقــــــدار
وأقــــــــرأ للدكتور عمر فروخ:
أنا أمشي في طريقي بهدوء واعتدال سائراً فوق رصيف عن يميني أو شمالي
ليس في نصف الطريق
قد أرى يوماً رفيقي فأحييه بعطفِ وإذا ســــرتُ وإيــــــاه تكلمنا بلطـــــــفِ
تلك آداب الطريق
وكنّا نطبق هذا السلوك في حياتنا، نتدرّب على هذه الآداب، على هذه القيم المدنية والأخلاقية، في العلاقات الاجتماعية، في العلاقات العائلية، في حُسن التصرّف والحديث، في احترام الكبير والضعيف، في حماية الأملاك الخاصة والعامة، في احترام القانون قدْر ما كنّا نعرف منه، مستشرفين مستقبلاً لنــــا جميعاً، يوحّدنـــــا في سيــــاق مدنـــــي راقٍ، يبني لــنــا مؤسســـات حاضـــــنة، فــ”نحـــن الشباب لنا الغد، ومجده المخلّد نحن الشباب” (الأخطل الصغير).
كنّا ننشد باعتزاز مَن ينتمي بصدق وحب وشغف للمجتمع، للوطن، للمستقبل.
وكانت لنا أناشيد دينية جامعة.
ففي السيدة مريم أنشدنا لسعيد عقل:
أحبـــــــــــك حنّت لك الأنجـــــــمُ وزنبــق قدســــــك يا مريــــــــــــــــــمُ
مباركـــة أنت دون النســـــــــــاء مبـــاركٌ الثمـــــر الأعظـــــــــــــــــمُ
أَلا معـــــكِ الله يــا مريــــــــــــــــــمُ
وفي النبي الرسول أنشدنا لأحمد دمشقية:
نـــــورٌ به دنيــا الحضارة تنعــمُ والحق يعلـــــــو والعدالـة تحكُـــــمُ
يا قومنــا صلــوا عليه وسلموا ظهر الهــدى وُلِدَ الرسول الأَعـــظمُ
اختار الأخوان فليفل تلك القصائد وأنشدناها معهما، نحن المسيحيين والمسلمين، ولم نسأل عن خصوصية الهوية الدينية، وكانا لحّنا أوبريت ميلاد المسيح، ونالا عليها وسام الصليب المقدس.
وللشجرة، من شعر محمد يوسف حمود، أنشدنا في عيدها المكرّس وطنياً لأول مرّة:
جنّــــة فـــــــي وطنـــــــي مـــــــــــــــن صبــــــــــاح الزمـــــــــــــــن
تملأ الأرض اخضـــــرارا والسمـــــــــــاوات افتـــــــــــــــــــــــــــرارا
بالشجـرْ يتعالى في الهـواءْ
والثَّـــمَـــــرْ يتلالا كالضياءْ
كانا معهما نعمل من أجل ثقافة الفرح لا ثقافة الحزن والموت والقتل والاكتئاب، ثقافة الإنجاز لا ثقافة التقصير وتدوير الزوايا والتقاعس والفساد، من أجل ثقافة المستقبل لا ثقافة الماضي المتحجّر والمنحبس في زوايا مظلمة.
في بطاقة الدعوة إلى هذه الندوة جاء في نص من صحيفة “لسان الحال”: “تداول المجتمع الأهلي هذه الأناشيد وعلمَتْها المدارس لتلامذتها، فأخذوا ينشدونها لما فيها من غايات سامية ترمي إلى توثيق التآخي الوطني وترقية العواطف”. فترداد الأناشيد يؤصّل فينا المعاني السامية والأبعاد الأخلاقية فنختلط، نعيّد مع المسيحي مع المسلم، نشعر بأننا جميعاً مؤمنون، بأننا شركاء في الحياة وفي الوطن، بأننا نعيش معاً، فنكبر بلا إحساس بفروقات مانعة من التحاب، أو التوادّ.
صدف أن تعرّفت إلى “بيت فليفل”: الإخوة والأبناء والأحفاد، ولمست أنهم صادقون، محافظون، يقدّرون ويمارسون هذه القيم الأخلاقية، فتذكرّت أن مصداقية أُستاذيَّ الأخوين كانت أصيلة، لذا نقلا إلينا مشاعرهما في كلمات وأنغام نابعة من قلبيهما، فلا تزوير ولا ادّعاء ولا نفاق من أجل الوظيفة أو الوجاهة أو كرمى لعينيّ فلان أو فلان.
أنشد الأخوان فليفل لقيَم كنّا نعيشها فرُحْنا نغنيها، نردّدها جماعياً (وللنشيد الجماعي تأثير خاص)، منها: الحضارة لغات متعدّدة، التحية، الأم، يا أمهات، أيها اليتيم، جارتنا، الفلاح، المهاجر، كشاف هيا، نار المخيم، المعلم، الفقراء، عيّدوا، الممرضات، نحن يا عمّال، هللوا للعيد، للمقاصد،… عناوين بل مواضيع أسست لثقافتنا الاجتماعية الجمعية المدنية.
تلك الأناشيد قصائد لشعراء كبار مجيدين، وبينها للأخوين فليفل إذ كانا شاعرين ينظمان الكلمات المناسِبَةِ ما يشعران به على وقع موسيقاهما. وممن لَـحَــنَّا لهم: عمر أبو ريشة، الياس أبو شبكة، عارف أبو شقرا، بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، عمر الزعني، رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي)، يحيي اللبابيدي، أحمد الصافي النجفي، رشاد المغربي دارغوث، سابا زريق، ابراهيم طوقان، مارون عبود، وديع عقل، عبد الرحيم قليلات، …
كتاب “اللحن الثائر” لـمحمد كريّم وجورج حرّو أحصى للأخوين فليفل50نشيداً دينياً، 32 نشيداً بيئياً، 61 نشيداً للأطفال، 129 نشيداً اجتماعياً، 84 نشيداً قومياً، وضمّ دراسة على النصوص والموسيقى، وأربع أسطوانات للأناشيد مسجَّلة ببحرفية عالية.
جاء في كتاب عباس محمود العقاد “شعراء مصر” (مكتبة النهضة المصرية، ط 2، ص 196): “قد تفتُرُ الحياة القومية، كما في مصر قبل ثورة عرّابي، والمانع السلطان الأجنبي وغلبة الأعاجم على البلاد وقلّة العلم وندرة الكتب القيّمة بين أيدي متعلمي ذاك الزمان على نزارة عددهم”. وبالفعل: من مطلع القرن العشرين حتى محطات الاستقلال لم تصدر “أناشيد وطنية”. فمن يجرؤ في ظل استعمار أو انتداب أو يصرّح بوطنه أو بأحلام جيله أو بزعيمه؟ ولأن الأخوين فليفل عاشا محطات ولادة الأوطان العربية سياسياً، صاغا أو اختارا من القصائد ما تلاءم مع الواقع العربي الجديد وما يجمع شعوب هذه الأوطان، في موسيقى مختارة تلهب المشاعر، تثير الحماس، وتجمع السواعد والقلوب. وفي كل نشيد اختاراه ما يميّز الوطن الذي يتبناه: الأرز والجبل هنا، الصحراء والفروسية هناك، العنفوان… العمّال، البحر، القائد والزعيم، … في اختيارات مدروسة.
منها في الأردن للشاعر نسيم نصر:
إيــه عبــــــــد الله مَـــــــــــــــن قــــــــــــام للحــــــــــــرب
هاشميــاً فـــــي ســــــــــــــــنن شيمـــــــــــــة العـــــــرْب
وفي السعودية:
ســـــائـــــل الجــــــــــــــــــدود ســـــائــــــل الحقــــــــــب
هتفـــــــــــــوا ســـعــــــــــــــــود عــــاهــــــلُ العـــــــــــرب
وفي المغرب:
فتية المغرب هيـــــا للجهــــــــــــاد نحن أولى الناس بالأندلس
نحن أبطالٌ فتاها ابن زيـــــاد ولها ترخص غالي الأنفسِ
وفي مصر أنشدت فرقتهما في حضور الرئيس عبد الناصر نشيد “راسخ عزمنا” للشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب. وحين وصل النشيد إلى بيت: “واحد شعبنا الكبير يا لشعب مؤمن صاعقٌ جيشنا هامه لا تنحي”، دمعت عينا عبد الناصر حتى إذا انتهى الإنشاد اقترب من محمد فليفل معانقاً يقول له: “هذا النشيد ليس خاصاً للجمهورية العربية المتحدة بل للشعب العربي كله. سمّوه “نشيد الشعب العربي”، وهكذا كان. فتأصيل الشعور الوطني احتاج إلى جرأة واقتحام في بداياته ( وربما ما زال يحتاج إلى ذلك اليوم) بعيداً عن الطائفية والمذهبية والتقوقع. إنه الشعور بالوطن كله، بأركانه كلها الإنسانية والطبيعية، بتاريخه، بمستقبله، بأحلام شبابه، بقيم رجاله، وبتقدير أبنائه العاملين من أجل حاضرهم ومستقبلهم.
ما زلتُ أتساءل كيف العرب على اختلافهم، واللبنانيون على تنوّعهم (الكتائب، النجادة) اقتبلوا أناشيد محمد وأحمد فليفل لشعراء: مصري وعراقي وفلسطيني ولبناني، شيوعي، أو قومي عربي، أو قومي اجتماعي سوري، ومن كل المذاهب، أتساءل الآن ولم يَرِد تساؤلي سابقاً لأن الكلمة كانت صادقة في النشيد، واللحن المرافق كان صادقاً أيضاً. كنّا ننشد الفخر والاعتزاز والعنفوان غير وجلين، غير هيّابين، نستعذب الكلمة، نصرخ بها ملء أفواهنا، وقلوبنا ترافق الايقاع فنرفع صوتنا ونردد لعبدالحليم الحجار:
الفخر في بلادنا والعز باتحادنا
وعن ذرى أطوادنا والأرز لا تسل
أو لفخري البارودي: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمنٍ إلى مصر فتطوان
أعرف، ويعرف مجايليّ، أننا كنّا نسمع هذه الأناشيد التربوية والوطنية من الإذاعة اللبنانية، الوحيدة عهدئذٍ، ونردّد الأناشيد في مدارسنا إبان حصص خاصة، وفي احتفالات وطنية واجتماعية، وفي حفلات آخر السنة الدراسية، في مدارس المقاصد وفي سواها.
نحن اليوم بحاجة ماسّة إلى ما يرسّخ هذه القيم والشعائر الوطنية في نفوس أطفالنا وشبابنا، نفتقد إليها. فهل تَجَاوُزُ ذلك (كي لا أقول خطأنا) خلل في المناهج، أو في ذاكرة المسؤولين، أو في انتماء بعض المربين؟ أين “التدريب العسكري” الموحّد، أو بديله التنموي، وكان يسهم مع المتطوعين في خدمة كل المدن والأرياف، ونصّ عليه القانون للطلاب الثانويين في كل لبنان؟ أين تدريس مادة “التربية المدنية” الذي كان معتمداً في الصفوف المتوسطة كما كنّا ندرسها؟
حبذا لو نردّد الآن مطلع نشيد “موطني” للشاعر الفلسطيني الكبير ابراهيم طوقان، ثم نعلن انطباعنا للآخرين هنا وهناك، فهل كان سيجري ما يجري خارجاً؟
موطني
الجلال، والجمال، والسناء، والبهاء في رباك
والحياة، والنجاة، والهناء والرجـــاء في هواك
يا رعاك
سالِـــــمـــــاً مُـــنَـــعَّـــمـــا غــانماً مكرّما
يا رعاك في عُــــــلاك تبلغ السِماك
موطني
نعم، هذه هي الروح التي تشع من أناشيد الأخوين فليفل.
لهما، منّا ومنكم، التقدير والوفاء.
________________________________
محمد كريّم: أضواء على سيرة الأخوين فليفل
عَلَمان مضيئان في حياتنا الفنية والوطنية في لبنان، ورائدان ابتدعا لوناً من الموسيقى كان من أمضى أسلحة التحرر الوطني. سجَّلَ لهما تاريخ الفن في العالم العربي فضل الريادة وشرف الإبداع: هذان هما محمد وأحمد فليفل.
فما هي المفاصل الأساسية في سيرتهما الفنية والوطنية.
1) النشأة
ولد الأخوان فليفل في ناحية الأشرفية من بيروت، الشقيق الأكبر محمد عام 1899 وأخوه أحمد عام 1906. تلقّيا مبادىء القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم في كُتّاب الشيخ مصباح دعبول في الأشرفية، وعلومهما الأولية في مدرسة المقاصد الأولى (دار النجاح)، ثم التحقا بدار المعلمين التركية وتعلّما فيها العزف على آلات موسيقية مع الفنان التركي يوسف أفندي.
وسط أنغام تواشيح وقصائد دينية وأجواء تراثية أصيلة تتردد أصداؤها في جنبات المنزل، ترعرع الولدان وتفتحت موهبتهما الموسيقية تجلى ولعهما المبكر بها فتعلّقا بفرق موسيقية عسكرية عثمانية كانت تجوب شوارع بيروت تعزف الألحان العسكرية، ينتظران بفرحٍ ولهفةٍ مرورها أمام منزلهما الأبوي. ولم يكتفيا بالمشاهدة بل كانا أحياناً يرافقان تلك الفرق في ذهابها وإيابها إلى حي السيوفي([1]) حيث تعزف المقطوعات الموسيقية والمارشات العسكرية التركية. ومن تعلقهما بهذه الفرق ألَـحّا على والدهما لاصطحابهما إلى حدائق عامة في ضواحي بيروت ليتمتعا بما كانت تعزفه أسبوعياً من ألحان كل جمعة وأحد في منشية فرن الشباك وجنينة جسر الباشا في حضور المتصرف العثماني شخصياً.
في تلك المرحلة تفتحت لدى الأخوين براعم التذوق الفني، بذرةً أُولى في تَشَكُّل وعيهما الموسيقي. فتلك الأجواء الموسيقية العسكرية وما كانت تقدمه فرق موسيقية أخرى تعرّفا لاحقاً إليها وأُعجبا بجمال عزفها([2])، زادت تعلقهما بالموسيقى العسكرية وحددت مسارهما.
في مطلع القرن العشرين كان لبنان رازحاً تحت وطأة الحكم العثماني، ويعاني كسائر البلاد العربية من ويلات الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، ما أَوهَنَ البنية الاقتصادية وأثّر سلباً على مستوى معيشة اللبنانيين. سيق الشباب إلى التجنيد الإجباري، وعمّت المجاعة المدن والقرى اللبنانية، وتفشت الأمراض وفتكت باللبنانيين، وأصاب الفقر معظم المواطنين إلا فئة ضئيلة ميسُورة.
في تلك الظروف المعيشية الصعبة اقتحم الأخوان محمد وأحمد فليفل ميدان الفن تحفزهما موهبتهما الفطرية، فسارا في درب محفوف بالمخاطر غير مأمون النتائج. وفيما كان اللبنانيون يبحثون عن مهنة تؤمّن لهم لقمة العيش اتجه الأخوان صوب الموسيقى يتعلمون فنونها ويحلمون بإنشاء فرقة موسيقية زمَنَ ندر العازفون وعزّت فيه الآت العزف. ولم يكن سلوك درب الفن يسيراً فترتئذٍ، بل يتطلب إرادة وعزماً وتشجيع المجتمع الذي يعيشون فيه، ودعمَ أهل كانوا بمعظمهم يربأون بأولادهم أن يحترفوا مثل هذه المهن “الوضيعة”، حسب رأيهم. كان المجتمع ينظر إلى الفنون عموماً، والتمثيل والموسيقى والغناء خصوصاً، نظرة ذات كثير من الشك والارتياب. لكن الأخوين فليفل، بمضاء عزيمتهما وعمق إيمانهما بدور الموسيقى في رقيّ الأمم، تحدّيا المعوقات ودرسا الموسيقى وفنونها دون حساب التضحيات المطلوبة فحقّقا أهدافهما ولعبا دوراً وطنياً هاماً بإبداعهما فناً راقياً: الأناشيد الوطنية.
كانت الدولة العثمانية تُوْلي الموسيقى العسكرية عناية خاصة، تدريباً وتجهيزاً وحشد إمكانات مادية وكفاءات، وتعتبرها من مظاهر عظمة السلطنة، فانتشر صيت فرقها شرقاً وغرباً، وأقبل عليها اللبنانيون متتبعين خطاها يتمتعون بمعزوفاتها الشجية المتقنة. وكذا كان حال الأخوين فليفل.
إقامة محمد فليفل في اسطنبول أتاحت له التعمق بفن الموسيقى العسكرية وتنويعاتها واستهوته الألحان التركية القديمة وبهرته موسيقاها، وكانت اسطنبول عاصمة الأمبراطورية العثمانية على مستوى عالٍ من الحضارة والتقدم. وحين عاد إلى بيروت صمم على إنشاء فرقة موسيقية ولو ضمن إمكانات محدودة. وكان أخوه أحمد يتابع في بيروت دراسته الموسيقية ويُعدّ لتأسيس الفرقة الحلم، فلم تخبُ من ذاكرة طفولة الأخوين ذكرى فرق موسيقية عسكرية كانت تجوب شوارع بيروت بل كانت تفاصيلها باقية ومعالمها واضحة فتكبر معها آمالهما. انتهت الحرب وعاد محمد ملازماً من اسطنبول، فقرر الأخوان إنشاء فرقة سَعَيَا إلى تكوينها رغم العقبات.
سنة 1923 حققا الحلم فأسسا فرقة موسيقية ذات 26 عازفاً من الشباب اللبناني، اشتريا لها آلات النفخ والإيقاع من مالهما الخاص وأسمياها “فرقة موسيقى الأفراح الوطنية”، أخذت تشارك في احتفالات المدارس والجمعيات الأهلية ومناسبات رسمية. وكانت تطوف شوارع العاصمة في مناسبات وطنية وأعياد دينية، مسبغةً بهجة وفرحاً عند المحتفلين وسائر المواطنين، فسعُد الناس بهذه الفرقة التي تضم أولادهم وأقرباءهم، وتقدم أعذب الألحان العربية والمحلية والعالمية. وسعد الأخوان فليفل بتحقيق هذا الإنجاز الحلم الذي طالما راودهما، وأدخلا البهجة إلى قلوب مواطنيهم.
كانت الفرقة تشيع جواً مبهجاً في جنبات المدينة أينما سارت. وخلال طوافها في شوارع العاصمة كانت النساء يطللن من الشبابيك والشرفات ينثرن حبات الأرز على أفراد الفرقة أو يرشونهم بماء الزهر، تدليلاً على تقديرهن واعتزازهن بهم. وكان أصحاب الحوانيت يقفون أمام أبوابها، هم وزبائنهم، ليصفّقوا للفرقة ويحيّوا أفرادها ويشجعوهم بكلمات الود والإعجاب، وتبقى الفرحة الكبرى للأولاد والفتيان الذين كانوا يتبعونها في تنقلاتها الداخلية من شارع إلى شارع ومن حي إلى حي.
2) موسيقى الدرك
سنة 1942، وفي عهد الرئيس ألفرد نقاش، دعيت فرقة “جيش الشرق” للمشاركة في استقبال شخصية أجنبية فاعتذرت لأسباب خاصة. استعانت الحكومة اللبنانية بفرقة “الأفراح الوطنية” المجهزة تجهيزاً كاملاً والمدرَّبة تدريباً ممتازاً، فأَثارت إعجاب الجميع، ما شجع قائد الدرك الكولونيل سليمان نوفل على الطلب من حكومة الرئيس سامي الصلح تأسيس فرقة موسيقية خاصة بالدرك اللبناني وتكليف أحمد فليفل أستاذ الموسيقى وأخيه محمد أستاذ الرياضة في المدارس الرسمية، تَوَلّي شؤونها وتنظيمها وتدريب أفرادها طبقاً للقوانين والنُّظُم العسكرية. وفي 16 حزيران 1942 تمت الموافقة على إنشاء الفرقة فتألفت من 45 عنصراً بصفة موسيقيين مدنيين، يتمرنون نهاراً على العزف والتمارين العسكرية في ثكنة الدرك بألبستهم المدنية، وينامون ليلاً في بيوتهم، على أن يرتدوا الثياب العسكرية عند الاشتراك بالحفلات الرسمية والعسكرية، ويتقاضوا راتباً من خمس وأربعين ليرة لبنانية بما فيه قيمة استهلاك آلات موسيقية قدمتها “فرقة الأفراح الوطنية” بدون أي تعويض، وأُلغي اسمها القديم وأصبح “فرقة موسيقى الدرك([3])“.
3) الأناشيد الوطنية والقومية
حفلت البلدان العربية في مطلع أربعينات القرن العشرين بأحداث تنذر بالانفجار: فلسطين تحت انتداب بريطاني يمهّد لاستيعاب اليهود في فلسطين ويسهّل لهم إقامة الوطن القومي الصهيوني. ولم يكن الوضع السياسي أفضل في سوريا ولبنان والعراق ومصر. ازداد تململ اللبنانيين وسائر العرب من ضغط الاحتلال ومساوئه، وراح رجال البلاد وزعماؤها يؤمُّون المحافل الدولية يطالبون بالاستقلال وبخروج الجيوش الأجنبية. أمام مماطلة المستعمر ارتفعت وتيرة الضغط الشعبي وخرجت الجماهير إلى الشوارع تعبّر عن استنكارها، وجابت الشوارع تظاهرات وطنية في عواصم عربية تدعو المستعمر إلى الرحيل وتطالب بالاستقلال الناجز.
في هذا الجو السياسي المشحون بالغضب، وأمام حالة الغليان هذه، وجد الأخوان فليفل نفسيهما مساقين بل مطالبين بضخ المزيد من أناشيدهما التي تذكي الروح الوطنية وتُعَبئها للوقوف في وجه الاحتلال، فعكفا على تلحين عدد كبير من الأناشيد الوطنية لشعراء كبار أمثال: الأخطل الصغير، ابراهيم طوقان، سعيد عقل، عمر أبو ريشة، معروف الرصافي، أمين تقي الدين، شبلي الملاط، سابا زريق، عبد الحليم الحجار وفخري البارودي. وفي مرحلة لاحقة لجورج غريب ونسيم نصر ومحمد يوسف حمود وسلام فاخوري وشفيق جدايل ووديع عقل وآخرون.
كان الأخوان فليفل يعرفان كيف يختاران أشعار أناشيدهما وكيف يوقّعان معانيها لتهز المشاعر بأناشيد يلبسانها ألحاناً حماسية تعبّر عن قيَم وطنية تزخر بها، كما في نشيد “موطني” لابراهيم طوقان:
الشبابُ لن يَكِلاّ هـــــمُّهُ أن تستقلاّ أو يــَبيد
نستقي من الرَدى لن نكونَ للعِدى كالعبيد
وفي نشيد “نحن الشباب لنا الغدُ” أطلق الشاعر بشارة الخوري صرخة مدوية:
شعارُنا على الزَمَنْ عــاش الوطنْ
بِعنا له يومَ الِمحَنْ أرواحَنا بِلا ثمنْ
هذه المعاني والكلمات ومثلها الكثير حفلت بها أناشيد فليفل وأثارت في النفوس الشابة الحميّة والحماسة، وحرَّكت الروح الوطنية التواقة للحرية والاستقلال، كما في “النشيد القومي” للأخطل الصغير:
فإذا دقَّ النفيرْ نملأُ الدنيا زئيرْ
وحديداً ودخان
ولعلم البلاد لحّن الأخوان فليفل من شعر سابا زريق:
رمزُ القِدَمْ نفحُ الشَممْ مُحيي الهِمَمْ هذا العلم
علمَ المجدِ القديمْ بسمةَ الفخرِ العميمْ
تِه بآفاقِ السُعودْ عالياً بين البنودْ
نحن في اليوم العصيب لكَ شُبَاناً وشيبْ
بقلوبٍ من مَضَاءْ ونفوسٍ مِن إباءْ
دُمْ لنا للوطنْ يا علم.. يا علم
وغنّى العرب من ألحانهما بشعر فخري البارودي نشيداً أثار في النفوس العزة وفخر الانتماء:
بلادُ العَرْبِ أوطاني من الشامِ لِبَغْدانِ
ومن نَجْدٍ إلى يَمَنٍ إلى مصرَ فتطوانِ
وفي لبنان كان نشيد “الفخرُ في بلادنا” لعبد الحليم الحجار نشيداً وطنياً جامعاً كل التيارات السياسية والتظاهرات الوطنية، فكان المتظاهرون ينشدون بحماسة وتحدٍّ:
الفخر، في بلادنا والعزُّ في اتحادنا وعن ذُرى أطوادِنا
والأرزِ لا تسلْ
حبذا لبنان جنةُ الخلودْ
مهبطُ البيان تُربةُ الجدودْ
يا بني الأوطان عصبة الأُسود
إذا دعا داعي الحمى يُثيرُ فينا الهِمَما وسالت الأرضُ دَما
ورُوّعَ الجبل
أسرجوا الخيولْ واقرعوُا الطبول واقحموا السهول
واحرسوا الجبل
وكان نشيد “في سبيل المجد” لعمر أبو ريشة صوت المناضلين في سجون الاحتلال ونشيد السياسيين ورجال الفكر في المعتقلات، كما كان يُغنى في مختلف المناسبات الوطنية:
في سبيلِ المجدِ والأوطانِ نَحيَا ونَبيدْ
كلنا ذو همةٍ شماءَ جبارٌ عنيد
لا تُطيقُ السادةُ الأحرارُ أطواقَ العبيد
إن عيشَ الذُلِّ والارهاقِ أولى بالعبيد
لا نهابُ الزمنْ إن سقانا الِمحَنْ في سبيلِ الوطن
كم قتيلٍ شهيد
قد صَبَرنا فإذا بالصبرِ لا يُجدي هُدى
وحلُمنا فإذا بالحِلم يودي للردى
فنهضنا اليومَ كالأطوادِ في وَجْهِ العِدى
ندفعُ الضيمَ ونبني للعُلى صرحاً مَجيد
أخذت السلطات الفرنسية المنتدِبة تنزعج من أناشيد للأخوين فليفل أحدثت تياراً متمرداً ثائراً اتسعت دائرته مع الأيام.
اندلعت المواجهة الأولى سنة 1940 عندما أطلقا من كلية الحرج (التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت) نشيد “العُلى للعربِ” من نظم عبد الحميد زيدان (أستاذ منتدَب من مصر لتدريس العربية في مدارس الجمعية)، وفيه:
تقول كلمات النشيد:
العُلى للعربِ الأُباةِ النُجُبِ
فلتكن خطوتنا فوق هامِ الشُهُبِ
من يثربٍ أو جِلّقِ طافَ الهدى في فَيْلَقِ
بالغَربِ بعد المَشرِق فلنُحيي عهدَ العَرَبِ
باتّحادِ الكَلِمِ وائتِلافِ الهِمَمِ
فاعتلاءُ القمم من سجايا العربِ
الدهرُ دارت دورتُهْ
والمجدُ حانتْ عودتُهْ
قد اسمَعَتْنا دعوتُه لبيكَ مجدَ العربِ
وأخذ صوت الطلاب المتّقد بالحماسة يهدر كل صباح بهذا النشيد، فتنبَّه إليه المفوض السامي الفرنسي في قصر الصنوبر القريب من مبنى الكلية. طلب ترجمة كلمات النشيد، وحين اطّلع عليها غضبَ وطلب من مدير الأمن العام الفرنسي طرد الأستاذ زيدان من لبنان وإعادته إلى بلده، وهدد الأخوين فليفل بالسجن أو النفي إذا لم يتوقفا عن تلحين مثل هذه الأناشيد.
لكنهما لم يتوقفا عن تأدية واجبهما الوطني فطلب المفوض السامي الفرنسي من وزير المعارف نجيب أبو صوان الاستغناء عن خدماتهما كأستاذين في المدارس الرسمية. وصادفة صرفهما من العمل استقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة برئاسة أوغست باشا أديب حلّ فيها مؤسس “النهار” جبران التوينيوزيراً للمعارف، فأعاد للأخوين فليفل اعتبارهما بإعادتهما إلى وظيفتيهما.
4) أغاني الأطفال
تنبّه الأخوان فليفل مبكراً لفوائد وتأثير الأغاني والأناشيد على العملية التربوية والتعليمية والنفسية فتوجَّها إلى هذا اللون وأنتجا كمّاً كبيراً منه في مواضيع تثير اهتمام الطفل منطلقين من مفاهيم وأسس تربوية علمية سليمة، فكانا رائدين في هذا المجال في العالم العربي. وكان لهما، منذ الثلث الأول للقرن العشرين، اهتمام مبكر بالنواحي التربوية لدى الناشئة، في أغانٍ وأناشيد للأطفال ذات مواضيع تربوية مختلفة: من التربية الوطنية إلى التربية المدنية إلى الأخلاقيات إلى مواد ترفيهية، كلُّها لتنشئتهم تنشئة سليمة.
تلك الأغاني والأناشيد ترافقت مع نهضة تربوية سعى إليها مربون لبنانيون مختصّون في كتب مدرسية أعدوها مع فجر الاستقلال للمدارس الرسمية لمراحل الحضانة والابتدائية والتكميلية. فتضمنت سلاسل كتب القراءة باقة أشعار تلك الأغاني مادة استظهار ومحفوظات ساهمت في ترسيخ أهداف وتعاليم أخلاقية ووطنية وتربوية رمى إليها المؤلفون في أذهان التلاميذ، تطابقت مع نصوص مختارة ورسوم معبّرة زُينت بها تلك الكتب. دافع الأخوين فليفل لإنتاج هذا اللون الجديد من الأغاني في المحيط العربي أنهما مارسا التعليم وآلمهما تلقين المدارس الخاصة تلامذتَها الصغار أغانيَ أجنبية (فرنسية في معظمها) ذات ألحان جميلة وكلمات تتناسب ومداركهم، وهي أغان مشرقة تسعد الطفل وتهيِّئ له مناخاً تعليمياً مريحاً بينما أطفال آخرون محرومون من هذه المتعة. وجدا من واجبهما الوطني والتربوي اقتحام هذا الميدان وإنتاج أناشيد وأغان للأطفال عربية المبنى والمعنى والهوية، ذات شعر سلس عميق بمعانيه ودلالاته، ما يسهم في إغناء مدارك الطفل العربي والارتقاء به ذهنياً ولغوياً وجمالياً مع مراعاة الناحية الترفيهية. بحثا عن شعر يخدم هذا الغرض في المحيط العربي، فوجدا الكتّاب والشعراء في بلادنا يترفعون عن الكتابة للأطفال معتبرين أن ولوج هذا الباب قصر على ذوي مواهب محدودة، فأدب الأطفال لا يوصل المؤلف إلى “المجد الأدبي”. لذا بذلا جهداً للحصول على شعر مناسب. أمام الرسالة التربوية والوطنية لأغاني الأطفال لم يرضيا بكلام ركيك فارغ المضمون، فسعيا إلى كلام راقٍ ذي أهداف تخدم تنشئة الأطفال على محبة الوطن وعلى المبادئ الخلقية القويمة والتربية المدنية الحقة.
اختارا بدايةً مجموعة أغانٍ وأناشيد لثلاثة أدباء اختصوا بأدب الأطفال: الشاعر المصري محمد الهراوي، المربي محمود باشو، والشاعر محمود ستيتية. ثم اتسعت الدائرة إلى شعراء كبار ومربين متمرسين.
كان محمد الهراوي من رواد شعر الأطفال: رؤيةً وعلماً وبُعدَ نظرٍ وأسلوباً رقيقاً واضحاً فوجد لديه الأخوان فليفل باقة قصائد تربوية للأطفال، اختارا منها نحو خمس عشرة أغنية: الطفلة ودميتها، أصحاب الحِرف، الفلاح، الهر الجميل، تحية المدرسة، ومنها أغنية “الكرة” التي اشتهرت بسلاسة الأسلوب وجمال الإيقاع:
أنتِ الكُرَهْ كالسُكّرَهْ
هَذي يَدي هيّا اصْعَدي
دوري هنا عِندي أنا
مِنّي خُذي وبي احتَذي
يا كُرَتي
كرتي اسمعي قُولي معي
يا أُمَّنا نِلْتِ المُنى
يَحيا الوطن طولَ الزَمَنْ
سامي العَلَم بينَ الأُمم
يحيا الوطن
وله أيضاً من إنتاجه الغزير المتنوع الطروحات والمواضيع الشعرية ذات الأخلاق التربوية:
يا معهداً علّمني وبالهُدى جمّلني
حلّيتني من صِغَري بكلِ خُلْقٍ حَسَنِ
كم فيكَ من معلمٍ بَرٍّ كثيرِ المِنَنِ
بعِلمْهِ زَوَّدَني بنُصْحِهِ أَرْشَدَني
تحيةً يا معهدي يا أصلَ عيشيَ الهَني
شأْتني مُبَاَركاً لأُمّتي وَوَطني
ومن محمود باشو اختار الأَخوان نحو عشر أغانٍ: أخي الصغير، الهر والدجاجة، جمال لبنان، طابتي وهرتي، صياح الديك، بائع الأزهار وغيرها، ومنها هذه القصيدة التي هي لوحة بهية تتغنى بالوطن وبطبيعته الجميلة:
لنا وطنٌ رعاه اللهُ بالأرواحِ نفديهِ
جميلٌ في شواطِئِهِ جميلٌ في روابيهِ
فَجَنّاتٌ وأنهارٌ وأطيارٌ تُناجيهِ
ونبعٌ سَلْسَلٌ عذْبٌ غزيرُ الماءِ صافيهِ
نسيمٌ منعشٌ شافٍ لطيفٌ في ضواحيهِ
وثلجٌ مثل قلبِ الطفلِ تاجٌ في أعاليهِ
واختارا له أيضاً قصيدة “الولد الشَرِه” كنشيد توجيهي مصاغ في قالب فكاهي ما يجعل العبرة أكثر رسوخاً في ذهن الأطفال لارتباط موضوع الأغنية بصورة فكاهية مضحكة:
زيدٌ ولدٌ شَرِهٌ نَهِمٌ يهوى الأكلْ
يبكي دوماً هذا الطفلُ أمي أمي أينَ الأكلْ
أين الحلوى؟ أين الأكلْ
غافل يوماً أهلَ الدارِ
دخلَ المطبخَ مثلَ الفارِ
يبغي الحَلوى يبغي الأكلْ
فرأى قِدراً فوق النارِ
فيه عَدَسٌ سُخْنٌ يَغْلي
يغلي غلياً، هذا الأكلْ
ملأَ الصحنَ عَدَساً سُخْناً
لكنْ حَرَقَتْ وَكَوَتْ فمَهُ
هَذي الأكلةُ، هذا الأكلْ
فبكى وصرخَ: أمي أمي
حرَقَتْ ذَقني ويَدِي وفَمي
هذي الأكلةُ، هذا الأكلْ
فأنا تائبُ منذ اليومِ
هذا النَهَمُ سببُ الألمِ
تؤذي المِعْدةَ فوضى الأكلْ
ومن محمود استيتية انتقى الأخوان فليفل أغانيَ تخدم الغرض: من ترى ذا يا أخيَّ، الطفل والحياة والمدرسة، بائع الأزهار، من ترى هزّ السريرا، وأنشودة “الغرسة”، وهي من أوائل الأغاني التي تدعو إلى احترام البيئة:
غرسةٌ تراها تزهرُ الغنى
من جنى ثراها نقطفُ المُنى
شَجْرَةٌ مبارَكة ما لها ثمنْ
زرعُها مُشَارَكة يُسعِدُ الوطن
إخوتي اسمعوا هاتفَ العملْ
ازرعوا ازرعوا نحصُدِ الأملْ
ومن أناشيد التربية المدنية اختار الأخوان قصيدة “في الطريق” للدكتور عمر فروخ:
أنا أمشي في طريقي بهدوءٍ واعتدالِ
سائراً فوق رصيفٍ عن يميني أو شمالي
ليس في نصفِ الطريقِ
قد أرى يوماً رفيقي
فأحيّيه بعطفِ
وإذا سرت وإياه تكلمنا بلطفِ
تلك آدابُ الطريقِ
إن أتت سيارةٌ حِدتُ حالاً وانتبهتْ
وإذا جَاءَ قطارٌ قادِماً نَحْوي ابْتَعدتْ
خوفَ أخطَارِ الطَّريقِ
ومن شعر الدكتور فروخ أيضاً قصيدة “جنينتي”:
جنينتي صغيرةٌ لكنها مُزْدَهِرَه
فيها من الأزهار أنواعُ الورود العَطِرَهْ
فيها قُرُنْفُلٌ له رائحةٌ مُشتَهِرَه
ونرجِسٌ ذو أَرَجٍ في بُقَعٍ منتشرَه
بنفسجٌ بين الأقاحي ما أحبَّ منظرَه
فزهرةٌ ظاهرة وزهرة مستـَتِرَهْ
ومن شفيق جدايل اختار الأخوان فليفل مجموعة: غزلان الوادي والراعي، العصفورة الباكية، الفتاة والبلبل، روضة الأطفال، هيا للوادي:
هيا هيا للوادي هيا للكَرمِ الهادي
يلقانا سربُ الأطيارْ يروينا النَّبعُ الفَّوار
هيا للكَرْم الرَّيّانْ ترعانا عينُ الرحمنْ
واختارا قصائد توجيهية للأطفال من كبار الشعراء، كما قصيدة “جدتي” لأحمد شوقي:
لي جدة ترأفُ بي أحْنَى عليّ مِنْ أبي
وكلُّ شيء سرّني تَذْهَبُ فيه مَذْهَبِي
إنْ غَضِبَ الأَهْلُ عليَّ كلُّهم لمْ تغضبِ
مشى أبي يوماً إليَّ مشيةَ المؤدِّبِ
غضبانَ قد هدّدَ بالضربِ وإن لم يَضْرِبِ
فلم أجدْ لي منهُ غيرَ جدتي من مَهْرَبِ
فجعلتني خلفها أنجو بها وأختبي
وهي تقول لأبي بلهجة المؤنِّبِ
ويحٌ له، ويحٌ لهذا الولدِ المعذّبِ
ألمْ تكنْ تصنعُ ما يصنعُ إذ كنتَ صَبي
ومن الشاعر معروف الرصافي اختار الأخوان فليفل أربع قصائد للأطفال، منها قصيدة “تلميذ ونجار”، وهي دعوة مبكرة تُعلي من شأن المِهن وتحثُّ على التوجه نحوها واحترامها، رداً على مفاهيم كانت سائدة في مجتمعات عربية كانت تنظر إلى المهن نظرة دونية:
أنا في الصبح تلميذٌ وبعد الظهرِ نجّارُ
فلي قلمُ وقِرطاسٌ وإزميلٌ ومِنْشارُ
وعِلْمي إن يَكنْ شرَفاً فما في صَنْعتي عارُ
فللعُلَماءِ مرتبةٌ وللصُنّاعِ مِقْدارُ
ومن أحب الأغاني إلى قلوب الأطفال أغنية “الجزرة” المضحكة (تأليف وتلحين الأخوين فليفل) كان يمثِّلها التلامذة منشدين، ومن إطارها التمثيلي الفكاهي مرّر الأخوان فليفل رسالة تربوية عن فائدة التعاون وكيف به يستطيع الإنسان التغلب على المصاعب. يقف الأطفال صفاً واحداً مُمْسكاً بعضهم ببعض وهم يغنون:
زرعنا جزرة، في وسْط البستان سقاها أبي، عاشت في أمان
كَبُرَت في حجمها، عَظُمَتْ في جذعها أتى ليقلعها، لم يقدرْ لها
فرأتهُ أمي جاءت بِعَجَلْ أمسكته بنشاط من غير كَسَلْ
أمي أمسكت أبي
أبي أمسك الجزرة
شدّوا شدوا لم يقلعوها
تراهم الأخت فتأتي مُحاوِلةً المساعدة، يليها الكلب ثم الهرة، يحاولون اقتلاع الجزرة فلا يقدرون. أخيراً يأتي الجرذ فيُمسك بالجميع، ويتابع الأطفال غناءهم:
جُرذ أمسك هرّي، هري أمسك كلبي، كلبي أمسك أختي
أختي أمسكت أمي، أمي أمسكت أبي، أبي أمسك الجزرة
شدوا شدوا فقلعوها
ومع اقتلاع الجزرة يقع الأولاد أرضاً من فرط الشد وقوة القلع، فتشيع الأغنية وحركتُها جواً من البهجة بين التلامذة المشاركين في أداء الأغنية وبين التلامذة المشاهدين على حد سواء.
ولحّن الأخوان فليفل لكامل كيلاني (أشهر كاتب قصص أطفال يومها) وأديب فرحات ورشاد دارغوث وغيرهم، أغنياتٍ وأناشيد تطرح قيماً أخلاقية وتربوية واجتماعية ودينية.
كما كتب الأخوان ولحّنا نحو خمسين أغنية ونشيداً ذات مواضيع متنوعة، أكملا بها النقص الحاصل في ريبرتوار أغاني الأطفال، منها: عصفوري الجميل، الغريب المشرد، التضامن والاتحاد، أخي الصغير، يا مطحنتي، الأرنب الصغير، الموسيقى والعصفور، صبايا الوطن، ليلة السبت عشيّة، مين اللي بيدق الباب، هيا نلعب، الأرنب الصغير، الوردة، وسواها، منها أغنية “الموسيقى والعصفور” كانت أسلوباً تربوياً حديثاً ومبتكراً في تعليم الموسيقى للأطفال والتمتع بأجوائها، وصدف أن صدرت شبيهى لها بعد أكثر من ثلاثة عقود في الفيلم الأميركي “صوت الموسيقى”.
جاء في أغنيتهما التي اتخذت من السلم الموسيقي منطلقاً لها:
دو، دو، دُم يا عصفوري في داري ري، ري، ريش يا دوري كُن جاري
مي، مي، مشى فرحانَ شاكرا فا، فا، فوقَ الأغصان طائِرا
صول، صول، صارَ يغني قائلا لا، لا، لما رآني مُقبلا
سي، سي، سر للنجاح كالأسد دو، دو، دُم بانشراحٍ يا ولد
غني واطربْ واسرحْ والعبْ مثلي يا صغير
للحريةْ في البريةْ للروضِ النَضيرْ
تلك نماذج من قصائد الشعراء اختارها الأخوان فليفل لإسعاد الأطفال وخدمة الأهداف التربوية.
فالتحية لهما على نظرة استشرافية رائدة لدور الفن في تنشئة الأطفال في بلادنا، وعلى دور رائد أدياه على الصعيد التربوي، فضلاً عن دورهما الوطني الـمُشَـرِّف.
[1] – السيوفي منطقة في حي الأشرفية في بيروت.
[2] – منها فرقة موسيقى “أيكنجي نمونة” في الخندق الغميق (بيروت)، وموسيقى “الكلية العباسية“ .
[3]– صفحات من لبنان- جوزف نعمة- الجزء الأول.
________________________________
http://www.annahar.com/article/192615-
http://www.alanwar.com/article.php?categoryID=6&articleID=252059
http://www.southlebanon.org/archives/134147
مركزُ التراث اللبناني.. دعوة لنــتَــذَكَّــر الأَخَـوَيـن فـلَـيـفِـل