“أُهدي هذا الكتاب إِلى أَحفادي لأَحفر في ذكرياتهم شهادةَ آبائهم في ذاكرة لبنان“.
بهذا الإِهداء افتتح الدكتور هيام ملاَّط كتابَه الجديد بالفرنسية “لبنان: شُروق الحرية والديمقراطية في الشرق الأَدنى“ (Liban: Émergence de la liberté et de la démocratie au Proche-Orient) عن منشورات “غوتْــنِــر” الفرنسية في 280 صفحة حجماً كبيراً، عالج فيه فَرادات مجتمعٍ متعدّدِ الطوائف في جبل لبنان، وهو، منذ القرن السادس عشر (تحديداً منذ سنة 1516 تاريخ انتصار السلطان سليم الأَوّل على المماليك في معركة مرج دابق ودخول العثمانيين إِلى لبنان)، وبما في مكـوِّنات هذا المجتمع اللبناني من عناصر جغرافية وسياسية واقتصادية واجتماعية، أَسَّسَ لشُروق أَوّل أَنوار الحرية والديمقراطية في الشرق الأَدنى.
هذا المجتمع اللبناني، بفضل التزاوُج الحميم بين التجربة الفردية والتجربة الجماعية، لم يكن مجرّد مجتمعٍ في أَوساطٍ صحراوية أَو جبلية. فجبل لبنان ليس بقعةً مغْلَقة منعزلة عن كل محيط، بل نقطةُ تَلاقٍ حيويةٌ بين حضاراتٍ وشعوبٍ مرّت في الشرق الأَدنى منذ أَقدم العصور، حاملةً إِليه مآسي الغزوات وحسَنات التلاقي.
إِنه مجتمعٌ عَشِقَ الحرية فهانت في سبيلها تضحياتُه مع كلّ عنصرٍ للتقدُّم والتطوُّر بفضل لبنانيين عِظامٍ كانوا على انفتاحٍ وبصيرةٍ وفطنةٍ قلّما كانت لدى شعوب المحيط، فإِذا لديهم تَظهر المطبعة الأُولى في الشرق، والمدارسُ الأُولى، والجامعاتُ الأُولى، والصحُفُ الأُولى، والنضالاتُ الأُولى في سبيل الحرية والديمقراطية، والامتيازاتُ الاقتصادية الأُولى بين بلدان الشرق. وما بدا ضعفاً في بعض مفاصل تاريخهم هو في الحقيقة قُوةٌ كانت بذورَ الأَمس لِـحَصاد الآتي وَسْط ارتجاجات الحاضر.
بهذا الـجـوّ عَرَضَ هيام ملاط لكتابه البحثي الجديد، عالجَه في خمسة فصول دقيقة: أَوَّلُها لدراسة المتوسط بين تاريخه وأَحداثه، ثانيها للجُذور الممتدَّة منذ دخول العثمانيين سنة 1516 مروراً بمعركة عين دارة سنة 1711، فسقوطِ الإِمارة سنة 1842 ونشوءِ المتصرفية سنة 1861 بانعقاد “مؤْتمر بيروت الدولي” أَوَّلِ مؤتمرٍ من نوعه في التاريخ. ثالثُ الفصول لـجَبل لبنان جغرافياً وديموغرافياً وقضائياً وسياسياً وتنظيمياً واجتماعياً وإِنتاجياً حتى الاعتراف الدُّولي بجبل لبنان حقوقاً وامتيازات، وعالجَ الفصل الرابع مفاصل النضال من أَجل الحرية والديمقراطية سياسياً وتربوياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، والختام في الفصل الخامس بنشوء دولة لبنان سنة 1920.
في خلاصة الكتاب يُعيد هيام ملاط خطْبة “الكومندان” شارل ديغول أَمام متخرِّجي الجامعة اليسوعية في 3 تموز 1931 وفيها: “يا شبابَ لبنان، عليكُم بالتفاني في سبيل الخير العام، لبناء بلَدِكم على أَرضِه الرائعة الـمُشْبَعَةِ بعظمة التاريخ، الـمُحَصَّنةِ بأَسوار جبالكم، الـمُنفَتِحة من بَـحْــركُم على الغرب، فاسْـعَوا فيها لبناءِ دولةٍ بِـــرُوح متآلفةٍ يُضحّي فيها الفردُ لصالح الجماعة. لا دولةَ من دون تضحيات، وإِنما على هذه التضحيات قامَ وطنُكم لبنان”.
كتاب هيام ملاّط، بفكْره النقديّ الأَكاديمي، يُضيءُ على لبنانيّـين كبار كانوا أَركاناً متينةً في صَرح تلك التضحيات.