لا تزال التردُّدات حول المقابلة التلـﭭـزيونية على قناة HBO الأَميركية تتداولُ استضافةَ مُقدِّم البرنامج بِيل مار الكاتبَ سام هاريس (صاحب كتاب “رسالة إِلى الأُمة المسيحية”) ومشاركتَه إِياه اتهامَ الإِسلام بالإِرهاب، وكيف انتفضَ الضيف الآخر في الحلقة المخرج والممثل بِـن آفْلِك (بطل السلسلة الجديدة من أَفلام “باتمان” الشهيرة) وراح يناقش الاثنين معاً ويَرفُض هجومَهما ويتَّهِمُهُما بالعنصرية الدينية، ويدافع عن الإِسلام بأَنّ “في العالم اليوم أَكثر من مليار مسْلم ليسُوا متعصبين ولا جهاديين ولا إِرهابيين بل مسالِـمُون وصالحون في الأَوطان حيث يعيشون. أَنتما تلوِّنان الدين كلَّه بفرشاةٍ غليظة، وهذا خطأٌ فظيع”.
استوقفَني في اللقاء أَنّ الـمُدافعَ عن الإِسلام ليس مسْلماً (وإِلاّ كان دفاعُه بديهياً) وليس عربياً (وإِلاّ كان دفاعه ذاتياً) بل سينمائي غربي (من هنا حياد رأْيه) يرفض صبْغ الإِسلام بـمنطق الإِسلاموفوبيا التي تنتشر اليوم زوراً في العالم.
هذه الـمُطلَقيّة في إِصدار الحُكْم، خصوصاً في الأَديان، تؤَدّي حتماً إِلى الصدام، والأَديان حوارٌ لا صدام، وتوصِل إِلى الاقتتال، والأَديانُ امتــثالٌ إِلى الله الواحد الأَحد في دُروب تختلف وُجُهاتُها لكنها توصل جميعُها إِلى سماء واحدة.
كلُّ تعصُّبٍ مرفوضٌ أَنّى يكُن مصدره ومآلُه. كلُّ تعميمٍ ممجوجٌ لأَنه يُطيح كلَّ انفتاح ويُبيح الانغلاق والتقوقع. كلُّ تنميطٍ مردودٌ لأَنه يصبغ الجماعات بما يقترفه أَفراد.
وهو هذا ما يدور حالياً في بقاعٍ من العالم حول الإِسلام الذي يأْخذونه بِـجَريرة التكفيريين والجهاديين على اسم الدين “والدينُ منهم بَرَاء” كما يكرِّرُ كبارُ الفقهاء والعلماء والمسؤُولين المسْلمين، تماماً كمَن يأْخذون المسيحيين في حقبة من التاريخ بجريرة الحملات الصليبية ويَـبنُون عليها، وهذا أَيضاً صبْغُ الجماعات المسيحية بما اقترفَه أَفراد.
يعنينا من هذه الظاهرة أَننا في لبنان نموذجٌ عالـميٌّ فريدٌ في العيش الواحد داخلَ الوطن الواحد بين عائلات روحية متعدِّدة تصلّي إِلى الله الرحمن الرحيم في مساجدها، وتبتهلُ في كنائِسها “أَبانا الذي في السماوات”، فتتلاقى الصلواتُ في سماء لبنان ومنها صُعُداً إِلى ربّ العالمين.
ليس مَن يعملُ للبنان وطناً للمسْلمين ولا من يريده وطناً للمسيحيين. ومرفوضةٌ كلُّ مقولة عن أَقلّياتٍ دينية بين أَكثرية دينية. وكما شُفِيَت أُوروﭘـا من اقتتال ديني طويل، يجب أَن نردعَ عنّا كلَّ ما يؤَدّي إِلى النزاع طالما اختلافُ هيكل الله لا يؤَدّي إِلى الخلاف على الله.
هكذا كان لبنان وهكذا سيبقى: وطنَ الله الحاضِنَ مئذنةً وقُبّةً معاً تحت سماءِ شعبٍ خَلاصُهُ الأَوحدُ في عبادة وطنه بعد عبادة الله.