بِــعقلٍ أَكاديميٍّ علميٍّ رصينٍ وضع رَغيد كاظم الصلح بالإِنكليزية سنة 1987 أُطروحة الدكتوراه “لبنان والعُروبة – الهوية الوطنية وتكوين الدولة” (بإِدارة أَلبرت حوراني) في كلية سانت أَنتوني من جامعة أُكسفورد، نشرَها مركز الدراسات اللبنانية في أُكسفورد (بإِدارة نديم شحادة يومَها)، ثم ترجمتْه “دار الساقي” اشتراكاً مع “مركز البابطين للترجمة” في الكويت، ونشَرَتْهُ في بيروت سنة 2005 في 424 صفحة حجماً كبيراً.
يتميّز الكتاب بنسيج واضح للدينامية الداخلية الخاصة بالسياسة اللبنانية والسياسة العربية المصاحِبة، ما يَجعلُه مرجعاً أَساسياً لفهم العلاقة الوُثقى بينهما في مرحلةٍ دقيقة من تاريخ المنطقة العربية.
ذلك أَنّ تناقضات التطلّعات القومية أَدّت ذات فترةٍ إِلى اضطرابات في لبنان وصراعات داخلية لم تنتهِ إِلا بمصالحةٍ بين القوميّتين اللبنانية والعربية أَتاحت للنظام السياسي اللبناني أَن يَزدهر لاحقاً فعرفَ لبنان هُدوءاً سياسياً وأَمنياً قبل أَن تهُبَّ عليه مُجدَّداً خَـماسين 1958 و1973 و1975 وما تلاها ولا يزال.
يبدأُ المؤلف بالمعالجة والاستقصاء من الفروق في الرؤْية إِلى لبنان، حتى سنة 1936 حين اضمحلت الفروق وظهرت ملامح وفاق وطني تَــتَــوَّج سنة 1943بـميثاق وطني كان من نتائج صيغته نيلُ لبنان استقلالَه عن الانتداب الفرنسي ولعبُه دوراً رئيساً في تأْسيس النظام العربي الإِقليمي وتثبيتُه شريكاً في تأْسيس الجامعة العربية.
صيغة 1943 واجهَت تحدّياتٍ صعبةً كلَّفت لبنان أَزمات وصراعات متتالية، عادت فهدأَت مستقرَّةً على اتفاق الطائف سنة 1989 واضعةً مقارباتٍ جديدةً لحل الخلافات بين المنادين بالقومية اللبنانية والمنادين بالقومية العربية. وفي الكتاب يقدّم رغيد الصلح خرائط بيانية للمقاربات والصيغ ومواطن الخلل والصواب في تلك المقاربات بين 1945 و1990. ففي رأْي الكاتب أَنّ العلاقة بين القومية العربية والقومية اللبنانية كَوّنت، في منتصف القرن العشرين، عاملاً رئيساً حدّد مسار أَحداثٍ شهدتْها أَراضٍ ضُمَّت سنة 1920 إِلى لبنان الكبير فاشتدّت الخلافات نتيجة التكوُّن الديموغرافي للدولة الجديدة (لبنان الكبير) وحجمِها الصغير نسبياً، وقويَت المعارضة ضدّ المناطق الساحلية والأَقضية الأَربعة، لأَن القادة السوريين كانوا يعتبرونَها جُـزءاً عضوياً من الدولة السورية. وتنامت تلك المعارضة بسبب الأُسلوب الذي نهض عليه مفهوم لبنان الكبير.
بهذا الوعي الهادئ للمسار التاريخي الحديث، عالج رغيد الصلح فصولَ كتابه الستة: المعاهدات مع فرنسا وانعكاساتها على سوريا ولبنان، سنوات نظام تلك المعاهدات، الحرب العالمية الثانية وتعطيل نظام المعاهدات، الحكْم البريطاني الفرنسي المشترك، لبنان المستقلّ والمحادثات الثنائية حول الوحدة العربية، دولة لبنان الكبير ونشوء جامعة الدول العربية.
ويختم رغيد الصلح كتابه بأَنّ لبنان بين 1936 و1943 انتقلَ من مقر للنفوذ الفرنسي ووطن ماروني (كما فهمه مؤَسسو دولة لبنان الكبير) إِلى “بلدٍ ذي وجه عربي” كما أَعلَنه زعماءُ الحكومة الاستقلالية الأُولى سنة 1943، وواصل لبنان رسالته ليكون منذ تلك الحقبة بيتاً للديمقراطية في العالم العربي.
كتاب رغيد الصلح “لبنان والعُـروبة–الهوية الوطنية وتكوين الدولة” بيانٌ لبنانـيٌّ معتدِلٌ متنوِّرٌ علميّ، وسَنَدٌ أَكاديميٌّ يؤَرّخ حيادياً لـمرحلةٍ في لبنان نأْمل أَن تظلَّ في البال أَمساً وفي التصوُّر مستقبلاً، كي يظلَّ للبنان دورُهُ الرائدُ على خارطة الشرق العربي موئلاً ونموذجاً للعالم.
______________________________