كلّما كانت تَجمَعُنا عَـمَّان، حيث تعرفتُ به قبل سنوات في مهرجان جرش، كان يسأَلني عن بيروت، والشعر في بيروت وشعرائِها أَصدقائه. وكان في صوته دائِماً حزنٌ كثير.
لم أَكن أَحدُس أَن يكون الموت هاجسَه الدائم، هو الثائرُ الفلسطيني على الغاصب المحتلّ، أَبعدَ من موت ومن استشهاد.
حين طلبتُ إِليه المشاركة في “مهرجان الأَرز الشعري” (ضمن احتفالات “بيروت عاصمة عالمية للكتاب”) كاد يَعتذر لولا أَنني أَكملتُ أَنْ سيكون عنوانُ المهرجان “قصائد حُبّ إِلى نجمة بيروت” فَجَزَم: “أُشارك”. ثم تعذَّرَ حضورُه إِلى بيروت فصوَّر إِلقاءَه القصيدةَ وأَرسَلَها إِلـيَّ على شريط ﭬــيديو بَــثَـــثْـــتُـه على الشاشة في ختام المهرجان (29/1/2010 – الجامعة اللبنانية الأَميركية).
واخترقَت القصيدة وجْدان الحضور لِـما فيها من حُبّ بيروت، ولِـما فيها من شجَنٍ كأَنه منذئذٍ (قبل أَربع سنوات) يودِّع بيروت وأَصدقاءَه في بيروت وكلَّ ما في قلبه من حنين إِلى بيروت.
كان في صوته نَعْيٌ مبْكر:
نتشهَّى الأَوطانَ بيتاً سعيداً وسِـــوانا يَشاؤُها تابوتا
يا ابنَ أُمّي لبنانُ: هل أَنْجبَتْنا لِـبلاءٍ كـابدْتُهُ فـابتُليتا؟
كأَنه، منذ تلك القصيدة إِلى بيروت، كان يُودِّعنا:
يا نسيمَ الشَّمالِ سلِّمْ على أَهلي شِمالاً واشـرَحْ عذابي الـمُميتا
بُحْ لأَهلي: أَدمى الحصارُ حنيني وبِــناري أَشعــلْتُهُ كبريتا
وكان في حدسه الفاجع تعلُّقُه بتراب فلسطين:
صَلَبَتْني الدنيا مسيحاً جديداً ولـكأْسٍ جُرِّعتُها أَن تَفوتا
وصليبي زيتـونةٌ من بلادي ودمائي دمـعٌ يَسُحُّ زُيوتا
وكان في وداعه شريطُ ذكرياتٍ من بيروت:
كيفَ حالُ “بْشَـرِّي” وصوتُ “نبيٍّ” أَلْهَمتْهُ فأَلْـهَمَ الكهنوتا
كيفَ حالُ الفراشةِ البنتِ: فيروزَ صــلاةً تُزوِّدُ الروحَ قوتا
هذا النشيج في قلبه وصوته وأَبياته كان صرخةَ شاعر في بلاده المحاصَرة المحتلة، ترابُ أَهله في هاجسه، ويرنو إِلى بيروت خائفاً أَلاَّ يعود يراها فيرسِلُ إِليها سلام الوداع قبل أَن يُغمض عينيه على ثرى بلاده وخيالات بيروت في ذاكرته:
يا نسيمَ الشَّمالِ سلِّمْ على أَهلي شِمالاً واشـرَحْ عذابي الـمُميتا
يا نسيمَ الشَّمالِ سَلِّمْ على أَهلي وبلِّـغْ شوقي بِما أُوتيتا
يا رسولي إِلى الأَحبَّة قَــبِّــلْ وجهَ أَهلي عنِّي وخيراً جُزيتا
يا نسيمَ الشَّمالِ واحضُنْ ثَرى أَهلي شِمالاً مُـعانقاً بَـيروتا
في خيالي قَبَّلتُ بيروتَ حيّاً… يا خيالي: شُكراً، ولي أَن أَموتا!!
وها سميح القاسم بلغ حَدْسَه، وَحَضَنَه تُرابُ بلدته “الرامة”.
ولعلّ ابنَ بلدته “يوسف الرامي” حضَرَ من جديدٍ فَــكَــفَّــن جثمانَه وواراه ثرى الشِعر الذي وحدَه يُنبِتُ خُلوداً جديراً بقَدَر الشعراء.