يوم طلبتُ من الباحث الفلسفيّ الأَب إِتيان صقر أَن يشاركَ في احتفالٍ كنتُ أُهيِّــئُه لذكرى الياس أَبو شبكة (القصر البلدي- زوق مكايل- 1984) عَــنْــوَنَ مداخلتَه “أَبو شبكة شَاعِـرٌ لاهٍ”.
فاجأَني العنوان فشرحَ لي، فلسفياً، أَنّ الفنّ في جوهره “لَـهْــوٌ بالجَمال”. ومع الوقت ترسَّخَت بي قناعةُ أَنّ “الفنَّ ملاعبةُ الجمال” من أَيِّ مَنبعٍ جاءَ وإِلى أَيِّ مَصَبٍّ يَؤُول، وصوُلاً إِلى الإِبداع، إِلى استيلادٍ في الخلْقِ جَديد.
لعلّ هذا ما حدا بأَبي حيّان التوحيدي (ق4هـ.) إِلى جمع مُسامراته سبْعاً وثلاثين ليلةً في منادمة الوزير أَبي عبد الله العارض وتسمية كتابه “الإِمتاع والمؤَانسة” (374هـ.)، أَو بـِمؤَرّخي “أَلف ليلة وليلة” أَن يعتبروا الكتاب “شَكَّلَ مُـخيِّلةَ العرب”. وهذا ما كان يرمي إِليه المأْمون في جمعه العلماءَ والأُدباءَ إِلى بلاطه يتناقشون أَمامه في كل مُـمتعٍ مفيد. وهذا أَيضاً ما رمى إِليه أَبو الفرج الأَصفهاني في مقدمة “أَغانيه” مشيراً إِلى قصصٍ في الكتاب لن يفصِّلها لأَنها “مُضْجِرة”. فالإِمتاع شرطٌ لإِيصال الإِبداع.
سوى أَنّ التعاطي مع الجمال، لَـهْواً إِلى الإِبداع، يفترض تَوَخِّي البساطة الـمُوحِيَة لا التعقيد الـمُنفِّر، ويعتمد الثقافة لا الثقافَوِية (الأُولى مضمونيةٌ فيها إِفادةٌ مباشِرة، والأَخيرة شكليةٌ فيها أُلعبانيّاتٌ لغويةٌ وتشاوُفاتٌ معرفية).
من هنا ضرورةُ إِيصال المعلومة، أَو الفكرة أَو الرأْي، بأُسلوبٍ سائغٍ مُـمْتِعٍ يُفسح للقارئ في التخيُّل. فشرطُ الكتابة الإِبداعية إِضافةُ فُسحةٍ من خيال جمالي لدى الـمُتلقّي بتوسيع مداه التخيـيلي مع مُـحافظة النَّص عند قراءته (أَو سماعه) على لذّةِ أَن يُفيدَ ويُسلّي معاً (التسلية هنا لَـهْو يفيدُ الـمتعةَ الجمالية). هكذا يصبح الإِيهامُ في الأَدب إِمتاعاً في الرواية والقصة، في المسرح والشعر. وكم من الشعراء توسَّلوا الإِيهام الافتراضي ليُقدّموا حالةً يريدونَ إِظهارَها واقعيةً (ولا تكون كذلك) لِـخَلْق “حالةٍ” لدى المتلقّي تَجعلُه يتناولُها ويَبني عليها فيُصَدِّق القارئُ الإِيهام ويَهنأُ الشاعر إِلى نَجاح “إِيهامه”.
ويرادفُ الإِمتاعَ في الأَدب امتلاكُ اللغة والرمز. مَن لا يَمتلك أَدوات لغته ورموزَهُ لا يُمكنه باللعب الجمالي بلوغُ “اللهو الإِبداعي” بكتابةٍ هي بنْتُ العصر في لغة العصر لا اللغة الموروثة (عبارة “غبار المعركة” مثلاً موروثة ولم تَعُد من قاموس العصر).
هكذا يكون الأَدب (شِعرُهُ والنَّثر) كَنْزَ الناثر والشاعر حين تكونُ فيه متعةٌ ذاتُ فائدة. عندئذٍ تَتَزاوجُ حالةُ المتلقِّي في المطالعة مع مُشاركتِه المبدعَ في “اللَـهْو الخلاّق” ويُشرق اللهْوُ إِبداعاً من أُفق الأَدب الجميل.