الذين يَسعَون إِلى تفجير فتنةٍ طائفيةٍ أَو دينيةٍ أَو مذهبيةٍ تُعيد لبنانَ إِلى نيران 1975 وما تلاها، يَجهلون تَمَاسُكَ العائلة الروحية اللبنانية التي قام على جُذورِها ويقومُ على جذوعِها لبنان.
والذين يَعملون لتفجير هذه الفتنة في بيروت، يَجهلون أَنّ بيروت قامت وتقوم على أُسرةٍ روحيةٍ واحدةٍ مسْلمةٍ ومسيحيةٍ لا تتفكَّك أَواصرُها مهما تَسرَّب إِليها ثعبانُ الطارئين والطارقين والطوارئ والطوارق.
ولِـمن يَجهلون العائلة البيروتية الـمتعدِّدة البيوت، أَكتفي اليوم بسرد بعض الأَحوال أَقطِفُها من محاضرة أَلقاها قبل أَسابيع على منبر “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية المحامي عبد اللطيف فاخوري.
منها أَنّ والدَه مصطفى وُلِد ليلة 24 كانون الأَول فتقدَّمت نساءُ الحي المسيحياتُ يقدِّمن أَيقوناتٍ ذهبيةً “نُقُوطاً” للمولود الذي نادَيْنَ به “مصطفى ميلاد”.
ومنها أَنّ والدة الفاخوري سمعَت جارةً لها خارجةً من بيتها حاسرةَ الرأْس لِـمصيبةٍ وقعَت لها وهي تستنجد بالـــ”يا لَيْسون”، واكتشف لاحقاً أَنّ الـمسيحيين في كنائسهم يردِّدون عبارة “كيريا ليسون” أَي “يا ربُّ ارحَمْ”.
ومنها أَنّ الشيخ محمد الحوت كان يُدرِّس طلاّبه في الجامع العمَري الكبير قصة المولد النبوي كما دوَّنها ابنُ حجر خاتماً إِياها بالصلاة على النبي وآله في عبارة “أَبد الآبدين ودهر الداهرين”، وهي العبارة التي تتردّد في الكنائس “الآن وكلَّ أَوان وإِلى دهر الداهرين”. والعبارةُ مذكورةٌ في وثائقَ عدّةٍ من أَوقاف المسلمين والمسيحيين لدى محكمة بيروت الشرعية.
ومنها أَنّ بيروت لم تعرفْ منطقةً خاصة بمسيحيين وأُخرى خاصةً بمسلمين. ففي القنطاري محلةٌ باسم “جميزة يمّين”، وكان سليم والد الفنان محمد فليفل يَسكن في الأَشرفية وكَمَنَ له يوماً طائحٌ خلْف شجرة صبَّير يريد تشليحه فشاهدتْه جارتُه المسيحية وهجمَت على الطائح واقفةً بينه وبين فليفل قائلةً: “أُوعا تقرّب، هيدا جارنا بالحي. سبحان الحي الباقي”.
ومنها أَنّ الأُسطول الإِيطالي قصَف بيروت سنة 1912 مُسبِّباً قتلاً وتخريباً فأَذاع مطران بيروت، نيابةً عن رؤَساء الطوائف المسيحية، بياناً أَعلَن فيه أَنّ أَديرة النصارى وبيوتَهم في جبل لبنان مفتوحةٌ للأَولاد والنساء من المسلمين.
ومنها أَنّ السلطان عبد الحميد، تكريماً لموقف بــيروت من فتنة 1860، أَهدى قطعتَي أَرض: أُولى للشيخ محمد أَبو النصر اليافي (لاحقاً زاوية سوق أَبو النصر واليوم قسْمٌ من مسجد محمد الأَمين)، والأُخرى للموارنة أَقاموا عليها كاتدرائية مار جرجس لكنّ مساحتَها يومها لم تكُن كافيةً فاقتطع محمد أَبو النصر جُزءاً من قطعته هِبَةً لتكتملَ مساحةُ بناء كاتدرائية مار جرجس.
هذه ليست سوى لُمَحٍ من أَخبار أَهل بيروت العائلةِ الروحيةِ الواحدةِ بمسيحيّيها ومسلميها. فَلْيَفهمْ مَن يريد ومَن لا يريد بأَنّ بيروت جذْعٌ واحدٌ متماسكٌ متينٌ، ومثالٌ لكلِّ لبنان الذي لم ولَن تندلعَ فيه فتنةٌ دينيةٌ ولا طائفيةٌ ولا مذهبيةٌ طالَما يَعي أَبناؤُه أَنّ ربَّ العالمين واحدٌ والطريقَ إِليه ترقى في خطَّين رفيقَين: أَحَدُهما يَـمُرُّ بقبَّةِ كنيسةٍ والآخرُ بِـمئْذنةِ جامع، ويلتقيان عند بَسْمَلَةٍ واحدة يتعانقان فيها “باسم الآب والابن والروح القدس” و”باسم الله الرحمن الرحيم”.