يَـندُر اليوم – إِلى الحدّ الأَدنى: تلامذة الثانوي – من لا يعرف عبارة جبران “لكم لبنانُكم ولي لبناني”، أَو تلك الأُخرى “لو لم يكن لبنان وطني لاتَّخذْتُ لبنان وطني”. وتنبثق من هاتين وسواهما ثورةُ جبران على الإِقطاعَـين الديني والسياسي في زمنه اللبناني، مع الربع الأَول من القرن العشرين.
ويَـندر من لا يعرف ثورة الريحاني ذاتَها، وحتى قبل جبران، على ذينِك الإِقطاعَين ودعواه لقيام وطن علماني تراءى له منذ كتابه الأَول “المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية” (1903) والثاني “المكاري والكاهن” (1904) وفي معظم كتاباته عن لبنان.
صحيح أَن كليهما عانى أَنين لبنان تحت النير العثماني فدعا إِلى خلع النير، وكان أَدب المهجر رافداً أَوّل دعَمَ الانتفاضة ضد المحتلّ وسجَّلَ (حتى مع نعيمة ولو باندفاعةٍ أَقلّ) صرخةً حُرّةً بلغَت تردُّداتُها أَرض الوطن فلاقاها مقيموه.
هو لبنان الأَدب، النقيُّ العالي على الفئويات والمحسوبيات والاصطفافات والزبائنيات، يبقى على الزمن بعدما تنقشع عن سمائه الغيوم السُّود، ونَفتقده اليوم لدى معظم أُدباء لبنان فما في ساحه سوى أَقلامٍ صحافيّة وبعضها فئوي، وسوى أَصوات سياسيين ويَندُر منهم مَن ليس في اصطفاف.
لبنانُ الذي نفتقد هو الخارج معادلات سياسيين اليوم ذوي معسكرَين قَــزّمُوا إِليهما لبنان “آذارياً” بين أَربعَتَعَشَريين وثمانيين، وكلاهما آنـيٌّ زائل عابرٌ مع الزمن العابر.
لبنان الذي نفتقد هو لبنان صلاح لبكي وعمر فاخوري، لبنان الياس أَبو شبكة وفؤاد سليمان وفؤاد حدّاد وأَحمد مكي، لبنان فؤاد افرام البستاني وتوفيق يوسف عواد وخليل تقيّ الدين، لبنان سعيد عقل وميشال شيحا وعبدالله العلايلي ورفاقِ ذاك الرعيل الفَذّ، لبنانُ أُدباء مستقلّين أَحرار غير تابعين ومستسلمين ومصطفّين ومزروبين في القطيع، لبنانُ العابرُ فوق هؤلاء وأُولئك من قادة سياسيين لم يعُد اليوم في الوطن كلامٌ إِلا كلامهم، ولا حديثٌ إِلا عنهم، ولا كتاباتٌ إِلا انتصارٌ لهم أَو مناهضة، كأَن لبنان بات بلا أُدباء، فلا قراءات إِلا مقالات الصحافيين الآنية التحليلية الراهنة، كأَنما لبنان اليوم لا يصدر عنه أَدبٌ يُزْهر في هذه المرحلة خارج القوافل السياسية والاستزلام للسياسيين.
لبنانُ الذي نفتقدُ اليوم هو الموازي أَدبَ الأَمس الأَبقى من الراهن السياسي والانزواء فيه، لبنانُ “طواحين بيروت” و”الرغيف” و”لبنان إِن حكى” و”تموزيات” و”لبنان الشاعر” و”قلب لبنان” وأَرغفةٍ مباركةٍ أُخرى من خبز الأَدب الخالد.
لن يستمرّ من لبنان الحضاريّ سوى أَدبه، ولن يسطع في الزمان سوى أُدبائه.
وحدَه الأَدب يعلو على الآنيات.
وخلودُ الوطن لا يكون إِلا في ديمومة هذا الأَدب.