كلمة هنري زغيب في الاحتفال بذكرى نقولا زيادة
خافَـت أَن تُخاصِرَه المئة

الجامعة الأَميركية – بيروت (السبت 2 كانون الأول 2006) 

dr ziade2-300305

يَجمعُني إِليه إِعجابٌ بنهَمٍ عالٍ إِلى الحياة، نهَمٍ هو بين فلسفة الحياة وإِﭘـيقوريّةِ عيشِها حتى النقطة الأَخيرة في كأْسها.

وتَجمعُني إِليه بساطةٌ في المقاربة الحَنون صداقةً وفيّةً تقديريةً تعرف كيف تَقرأُ في الآخَر الثنايا الطيّبات ولا تُشيحُ عن توعيةٍ حين هذهِ من خُلاصات الصداقة.

ويَجمعُني إِليه اطِّلابٌ لا يكلّ، هَنّا قراءةٌ تغرف من كلّ مُتاح وصولاً إِلى كل صلاح، وهَنّا كتابةٌ هي الخلاصة المقطوفة من كل ردحٍ في العمر بنى صَرحاً بعد صرحٍ حتى باتت لنا منه اليوم موسوعةٌ هي للتاريخ عنوان، وللتأْريخ سلطان، ولكتابة التاريخ ميزان.

وتَجمعُني إِليه خفةُ روحٍ على التقاط هنيهات الدُّعابة، تتعالى بنكهتها الجَلود على التعب الجَحود، فهو في حالتَيه الصلبُ القادر على الجمع بين الأَكاديمي الأَريب والدمث القريب، فالجِلسة إِليه متعةٌ للقلب والعقل والروح، مثالثةٌ في العنوّ لديه من دون احتسابِ وقتٍ يمرّ مهدوراً على انسفاح الثرثرة.

ويَجمعُني إليه ايمانٌ بالحياة قويٌّ، كما لو انه تعاهدَ والحياةَ على مسارَرَة حميمة، لا هو يَغدرها بفجاءة العُقوق السادر، ولا هي تَغدره بفجاءة الموت الهادر. ولا وضوحَ هنا بين إِن كان هو يُحاذرها أَو هي مَن كانت تُحاذره خوف جَرح شيخوخته المباركة. مع أَنه لم يكن يهادن. ذات يومٍ، في إِحدى السهرات لديه، وما كان أَكثرَها وأَحلاها مع شلةِ أَوفياء وأَصدقاء، سأَلتُهُ عن سرّ احتفاظه بهذه العافية رغم السن المتقدمة، فانفرجَت شفتاه عن تلك البسمة المحببة تحت ثلج شعره الهاشل، وأَجاب بكل هدوء: “السر؟ أَشرب الويسكي كلَّ يوم، أُدخّن الغليون كلَّ يوم، أَسهر كلَّ يوم، أَكتُب كلَّ يوم، أَقرأُ كل يوم، آكُل ما أَشتهي كلَّ يوم، لا ريجيم، لا أَمشي، لا أَقوم بأَيّ حركات رياضية، آنس إِلى النساء الجميلات، أَبوسهُنَّ مستقبِلاً ومودِّعاً، لي خطيباتٌ  يستفْقدْنَني دورياً، ولا أَشعر أَنني هرِمتُ أَو أَتقدم في السن”. وهكذا بدا أَنه يمشي عكس السير في تَحدِّيه الحياة، بينما سواه في الخمسين يُهَمْهِمُ مُـحْـبَطاً يائساً: “لم يبقَ من العمر أَكثر مما مضى”.

وتَجمعُني إِليه ذاكرةٌ ذاتُ صفاءٍ عجيب: أَرقاماً وتواريخَ وأَحداثاً وتفاصيل، كأَنّ أَمسه الطويل كتابٌ على مدّ يده يطالُه لحظةَ يَشاء ويقطفُ منه معلومةً وُثقى لا إِلى ارتجاج.

***

          إِذا كان أُسطورياً ما قرأْناه عن العلماء، فهو العالِـم.

          وإِذا كان لافتاً ما قرأْناه عن فلذات في الدهر استثنائيات، فهو الفلذة الاستثنائية.

          وإِذا كان أَبعدَ من المنطق ما قرأْناه عن سرّ الكبار، فهو هو ذاك السر: يكتُب يكتُب، يَقرأُ يَقرأ، يحادثُ يحادث، وفي كلِّها جميعاً حُبُّ الحياة، على ثقةٍ بالغد هَيمى بتحدّي العجز حينَ الجسد يؤَذِّن بالرحيل. ولشدة ما كانت المئةُ سنةً طبيعيةً في تفكيره، خافَتْ هذه أَن تُخاصِرَه فيصطفيها ولا يعودَ لديه استثناءٌ حتى ببلوغها، فخانتْه وانسحبَت قبْل يبلُغُها كي تظلَّ عنده نقطةٌ تَمناها ولَـمْ، وكي لا يظلَّ عندنا ما نقوله عن متمنَّياتٍ له قطفَها جميعَها فضجِر من بلوغِها جميعاً ورحَل بعدما ضجرَ من النَّوال، بل تبقى لنا غصّةُ أَنه لم ينل كلَّ ما تمنى، فنأْسف للمئة ولا نأْسف عليه، هو الذي سنسهر عنده الليلة، تماماً كما كلّ 2 كانون الأَوّل، ونحتفل بإِطفاء الشمعة كما كلّ 2 كانون الأَول، مع فارق أَننا الليلةَ سنحتفل بالمئة ونخبرُه عنها عوض أَن يحتفلَ هو بها ويخبرنا عنها.

          وإِذا كان أَجملُ الخريف وريقاتٍ تهرّ عن أَفنانها ليكونَ خريف، فغصةُ الطبيعة أَن تبقى على غُصن ورقةٌ وحيدةٌ تَعصى ولا تهرّ، فتذبل على الأَرض وريقاتٌ سقطَت وجرَفَتْها مياه المطر، وتظلّ في البال ورقةٌ وحيدةٌ يتعاقب عليها فصلٌ بعد فصل، وتبقى هي حديث الفصول.

هكذا هو يبقى: تلك الورقة الإِسـمُها نقولا زيادة.N_ZIADEH