لعلَّ أَمتعَ الكتُب قراءةً ومُتابعةً: كتبُ السيرة، وأَمتعَها: السيرةُ الذاتيةُ، خُصوصاً حين لا تكتفي بسرد حياة الشخص بيوغرافيّاً بل تتوسّع بها إِلى المحيط وعاداتٍ وتقاليدَ ومُشاهداتٍ تُضيف إِلى التراث مَعالـمَ وأَعلاماً وعلامات.
من هذه الفئة الأَخيرة: كتاب السيّدة عنبرة سلام الخالدي “جولةٌ في الذّكريات بين لبنان وفلسطين” الصادرُ سنة 1978 عن “دار النهار للنشر” في 222 صفحةً حجماً وسطاً، مع صُوَرٍ فوتوغرافية للسيّدة عنبرة في مراحلَ مختلفةٍ من حياتها ومع شخصياتٍ من ذاك العصر.
مقدِّمة الكتاب للمؤَرِّخ كمال الصليبي الذي يَـجزُم أَنّ الكتابَ “سِجِلُّ خبرةٍ حضاريةٍ ممتعةٍ عاشتْها سيِّدةٌ رائدةٌ من بيروت يترادف اسمُها مع النهضة الاجتماعية والأَدبية في المشرق العربي”، وأَنّ “تاريخَ بيروت في العصر الحديث لن يُكتَبَ دون الرجوع إِلى مذكّرات السّت عنبرة، منا لن يُكتَبَ تاريخُ النهضة النسائية في العالم العربي الحديث دون الاعتمادِ على هذه المذكّرات بالذات”.
وبالفعل يَزخر هذا الكتابُ الشيّق بذكرياتٍ عامة ومذكِّرات خاصة وذاكرة جَماعية لبيروت مطلعِ القرن الماضي، في كلمات تلك الصبيةِ التي وافقَ والدُها الـمُـتَـنَـوِّرُ أَبو علي سلام أَن تَخلعَ حجابَها فكانت أَوَّلَ مُـحَجَّبَةٍ تَـخْطُبُ سافِرَة في احتفالٍ عام.
في بيتٍ بيروتي لوالدَيْن مُـحافِظَين كانت نَشأَتُها الأُولى، وتذكُرُها الست عنبرة كما يلي: “كنا نَستفيقُ صباحاً على أَصوات ترتيل الآياتِ القرآنية يَتلوها أَحدُ الوالِدَين قبل أَن يذهبَ أَبي إِلى عمَله”. وكبرت الابنةُ معتَزَّةً بوالدها رئيس بلدية بيروت وعضو مجلس إِدارة الولاية ورئيس جمعية المقاصد الخيرية الإِسلامية ونائب بيروت لدى مجلس النواب في اسطمبول.
وتشُبّ الصبيةُ في المصيطبة بين شقيقَتَين وثمانية أَشقّاء كان صائب بين أَقربِهم إِليها، وتَنعَمُ مع العائلة بالاصطياف في عيناب وصوفر ومنصورية بحمدون حيث كان البيت قربَ الكنيسة وكان أَشقَّاؤُها يُشاركون أَترابهم في بعض الطقوس المسيحية.
وتدخُلُ الصبيّة إِلى مدرسة مار يوسف بِإِدارة راهباتها، ثم إِلى المقاصد الإِسلامية ومديرتُها آنسةٌ مسيحيةٌ تدعى جوليا طعمة كان لها تأْثيرٌ بالغٌ في نفس الصبية الناشئة.
وتتذكّر بفخرٍ واعتزازٍ كيف سافر والدُها أَبو علي سلام إِلى مؤتمر ﭘـاريس سنة 1913 وانتُخِب هناك عضواً في لجنة وكلاء المؤتمر مع نَدرة مطران والشيخ أَحمد كبّارة، وكتَبَت إِلى المؤتمر رسالةً تضامنيةً وقَّعَتْها مع رفيقَتَيْها: شفيقة غريّب ووداد محمصاني.
وتندلع الحرب العالمية الأُولى فتتعطّل المدارس ويأْتي أَبو علي سلام إِلى البيت بالشيخ عبدالله البستاتي لتدريس ابنتِه عنبرة العربيةَ أَدباً وقواعد. وتنخرطُ الصبية بالعمل الاجتماعي والوطني فتُؤَسس مع خمس من رفيقاتها جمعية “يقظة الفتاة العربية”. وفي فترة لاحقة تؤَسّس وتَترأَّس “نادي الفتيات المسْلمات” وبعدها “جمعية “النهضة النسائية”، وتواصل ناشطةً عملَها الاجتماعي الذي صبغَ حياتها وبه صَبَغت جيلاً كاملاً من بيروت فناضلَت وجاهدَت وشاركَت في مؤتمراتٍ وطنيةٍ ونسائيةٍ كثيرة مع رائدات ربيبات مثل جوليا طعمة دمشقية وسلمى صائغ وابتهاج قدُّورة ونجلا صعب ونجلا كفوري وسواهنّ.
ويحين قَدَرُ الزواج فترتبط العنبرة بأَحمد سامح الخالدي سنة 1929 وتنتقل معه إِلى القدس لعشرين عاماً من النضال والنشاط وتربية أُسْرة طيّبة، حتى حلّت الكارثة في فلسطين سنة 1948 فعادت الأُسرة إِلى بيروت، وسرعان ما حلَّت كارثة أُخرى بوفاة الخالدي فجأَةً، تاركاً زوجةً يبقى اسمُها حتى اليوم قُدوةً مثاليةً في العمل الوطني والاجتماعي، وذاكرةً بيروتيةً دامغةً تُعَنْوِنُها في جدارةٍ: “الست عنبرة سلام الخالدي”.