في أَخبار وكالات الأَنباء أَنّ الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، بسبب الحالة المالية والاقتصادية التي تَجتازُها بلادُه، أَعلن بالتنسيق مع الحكومة عن تخفيض راتب الرئاسة إِلى الثُّلْث، آملاً أَن ينسحب ذلك على الحكومة وكبار المسؤُولين قدْر الإِمكان.
أَذكُر هذه البادرة ونحن عشية عيد العمل والعمّال، ووسْطَ ما تُطالب به النقابات من تثْبيتِ سلسلةٍ للرّتب والرواتب لا تزال في مجلس النواب تَروح وتَجيء وتتعجَّل وتتأَجَّل وتُدرَس وتُحفَظ وتُنسَى وتُحصَى، ولم يَجِد النواب الـمُشرِّعون بعدُ تشريعاً شرعياً يُشرعِنُون به شرعة تأْمين مداخيلَ للخزينة تُعادلُ صرفَ الـمُستحقّات لتأْمين تلك السلسلة.
وإِذا كان الـحُرْقُ لا يؤْلم إِلاّ صاحبَه، وإِذا كان منطقُ الهدر حُجّةً عند أَهل السلسلة الموجوعين من الإِجحاف اللاحق بهم منذ سنوات، وإِذا كان راتبُ النائب أَو الوزير يعادلُ أَضعافَ راتبِ موظَّفٍ كبيرٍ هو الذي عادةً يُهيِّئُ الشغل كلَّه فلا يبقى على الوزير إِلا التوقيع أَو على النائب إِلاّ قراءة الدراسة التي سهِرَ عليها الموظَّف الكبير ساعاتٍ وأَياماً وربما لياليَ طويلةً بيضاء، وإِذا كان ذاك الراتبُ الوزاريُّ أَو النيابِـيُّ يعادل أَضعافَ أَضعافِ ما يتقاضاه موظَّفون عاديون على أَكتافهم يقوم الشغل الـمجهول الذي كالـمرساة لا يراه أَحد ولكنه الأَساس في القاعدة الإِدارية (هذا كي لا نفتح هلالَين على جهد أَساتذة ومدرّسين يُفْنون أَعمارهم داخل الصف كي يتقاضوا في آخر الشهر راتباً لا يَكفي الـخُضَرجي واللحّام وفُرن الحي)، فإِنّ الأَرقام التي تصفعُـنا بها الحقيقةُ جديرةٌ بقراءَتها كي نقرأَ إِرهاقاً في خزينة الدولة يُسعف تَـخفيفُهُ حتماً في تأْمين مواردَ لسلاسلَ عدةٍ لا لسلسلةٍ واحدة.
كيف لا تَصفعُنا حقيقةُ أَن يتقاضى النائب 12 مليوناً و975 أَلف ليرة راتباً شهرياً ومعها مليونان و700 أَلف ليرة مخصصاتٍ وتعويضاتٍ شهريةً، و100 مليون ليرة اعتماداً سنوياً من وزارة الأَشغال لتحسين منطقته، إِلى جانب طبابة مَـجّانيّة في الدرجة الأُولى، ومع كلّ دورة نيابيّة سيّارةٌ مُعْفاة من الرسوم الجمركيّة، وإِذا تعطّل مجلس النواب يُـمضي سعادةُ النائب أَشهراً طويلةً في البيت أَو في متابعة أَشغاله الخاصة أَو في أَسفاره السياحية أَو العائلية ولا يَدخل الـﭙـرلُـمان ليُشَرِّع أَو يدرسَ القوانين إِلاّ تحت ضغط الشارع وحصار الإِضرابات والتظاهرات؟
كيف لا تصفعُنا حقيقةُ أَن يتقاضى الوزير نحو 8 ملايين ليرة راتباً شهرياً، حين بعضُ الوزراء يُواصلون مصالحهم الخاصة ويَجعلون من مكتبهم في الوزارة مقرَّ مراجعاتٍ لأَعمالهم إِلى جانب ما يكون هيَّأَ لهم إِداريُّو الوزارة من ملفّاتٍ وقراراتٍ ليس عليهم إِلا توقيعُها والسلام؟
كيف لا تصفعُنا أَرقامُ رواتبِ النواب السابقين والـمُتوفين حين عددُ السابقين الأَحياء 310 نوّاب و103 أُسَر نوّاب سابقين متوفّين، وإِذا مَـجموع النوّاب الذين يَدفع الشعب اللبناني رواتبهم: 541 نائباً تبلغ كلفتُها 28 مليار ليرة سنويّاً؟
طبعاً لسنا هنا لنَشمُتَ أَو نَـحسُدَ أَو نُقاضي بل لنَقرأَ -فقط لنقْرَأَ- أَرقاماً صافعَةً هي أَبلغُ من الكلمات، كي نتأَمَّل مسؤُولين في الحُكْم والتشريع والقرار يتقاضَون شهرياً رواتبَ قياصرة، والخزينةُ في عجْز، والشعبُ في عَوَز، والوضعُ الاقتصاديُّ في كارثة، والدَّيْنُ العام في ازدياد، وما زال الـمَسؤُول الـمَعنيّ يأْخُذُ وقتَه في الدَّرس والتأْجيل وتشكيل اللجان، والرغيفُ يهرُبُ من مِعجَن الناس، والـمُواطنُ يَـخشى أَن يقومَ صوتٌ “أَنطْوانِــيــتِـــيٌّ” يقول: “إِن لم يَعُدْ عند الشعب خُــبْــز، فَلْيَأْكلوا البسكوت”.