حرفٌ من كتاب- الحلقة 166
“في البال يا بيروت”- محمد كريِّم
الأَحـــد 27 نيسان 2014

Mohammad Krayyem - Beirut

          يَعْذُبُ الحديثُ عن بيروت، بيروتِنا الغالية، في كتابات الرحّالة والمؤَرّخين. لكنه يَعْذُبُ أَكثر حين يَصدُر عن ابن بيروت يروي ذكرياتِهِ طفولةً وشباباً، ومشاهداتِهِ أَيامَ كانت بيروت قريةً مُـميَّزةً بشوارعَ وأَزقةٍ وبيوتٍ ذاتِ شرفاتٍ وحدائقَ ونوافير، وبيارتةٍ ذوي عادات وتقاليد من أَطيب التراث اللبناني.

          تلك حال ابن بيروت المخرج المسرحي والإِذاعي محمد كريِّـم وكتابِه النوستالجيّ الجميل “في البال يا بيروت“، الصادر سنة 2005 عن “الدار العربية للعلوم” في280 صفحة قطْعاً وسطاً، وفي سبعة فصولٍ تتنافس ذكرياتٍ وكلُّ ذكرى تتباهى بأَنها الأَحلى.

          مقدِّمة الكتاب للدكتور وجيه فانوس وفيها أَنّ “بيروتَ الرائعة في التاريخ والحاضر ووعد المستقبل، بيروتَ درَّةَ تاج مُدن الأَبيض المتوسط، المخْلصةَ لتراث ناسها المؤْمنين بأَرضها، تُطلّ بكل بهائها من بال ابنها محمد كريِّـم السابحِ في بحار هواها والعارف بأَسرار عشْقها“.

          هنيهةً بعدَ المقدمة يبدأُ المشوار إِلى بيروت التي وضع محمد كريِّم كتابَه عنها “كي لا تموتَ مدينتي من البَرد، وحاولتُ أَن أَسترجع من الذاكرة نماذج من تراثها الشعبي لتكونَ مرآةً تعكِس صورةَ مدينةٍ أَحَبَّها كلُّ من عاش فيها، وكلُّ مَن تَفَتَّحَ وعْيُهُ عليها ففتَّحَت وعيَه على الدنيا“.

          البداية من مخزون الذاكرة عن أَيام الحرب العالمية الثانية وأَجواءِ بيروت خلالَها ملجأً وإِعاشةً وعسكرَ حلفاء بين سنغالي وأُسْترالي، وحكاياتِ الأُنس والجنّ، مروراً بمظاهرَ بيروتيةٍ شعبيةٍ من علاماتها صندوق الفرجة “تلـﭭـزيون تلك الأَيام” وما كان له من رواجٍ بين أَولاد البلد، وطبلِ الزغلول في مناسبات البيارتة، وأَربعاءِ أَيوب على رمال شاطئ بيروت تَيَمُّنا ً بالنبي أَيوب، وُصولاً إِلى حلاّقي بيروت الـمُتجوّلين بِـعُـدَّتهم من بابٍ إِلى شارعٍ ومن حَيٍّ إِلى حيّ، بُلُوغاً إِلى المظاهر الدينية بين النُّذور وأَجواء رمضان صياماً وسُحوراً فإِمساكاً، وفرحةِ العيد عند حرش العيد في حرش بيروت.

          ومن القضايا الشخصية في شباب المؤَلّف: أَولُ عهده بالنضال السياسي والوطني ضدّ الانتداب إِضرابات وتظاهرات، فتَلَقِّيهِ الثقافةَ الموسيقية على الأَخَوين محمد وأَحمد فليفل عتابا ومواويلَ ومدائحَ وموشَّحاتٍ، وموسيقى كلاسيكيةً من فونوغراف حلاّق الحي.

          وهي ذي الأَماكنُ بِـحَنينِها وأَجوائها: من أَحياءَ بيروتيةٍ لا تتجاوز العشرة تربط بينها قادوميّات ضيّقة، إِلى البحر الذي يَبعُد خطواتٍ عن البيت، وصولاً إِلى سوق سرسق عريس الأَسواق بين سوق النحّاسين والمنجّدين والحدّادين وسوق الطويلة وسوق أَياس وسوق البزركان وسوق أَبو النصر وسواها من معارض البضائع والسِلَع. وبين جلَبَة السوق فونوغرافٌ نقّال يُذيع لعبدالوهاب “إِيمتى الزّمان يِسمَح يا جميل”، وُصُولاً إِلى بحر بيروت وأَخباره، وملامحِ شخصياتٍ بيروتية منها أُمّ جرجي وعبدالرحمن وشريكه محمود والبارون بيزانت الأَرمني “خيّاط ذوات البلد وباشوات الأَقطار العربية”.

          أَخبار… أَخبار… يَرويها كتابُ محمّد كريِّـم “في البال يا بيروت” بإِيقاعٍ روائيٍّ سَلِسٍ متسلسِلٍ طيّبِ النكهة لذيذِ الوقْع، من أَيام بيروت الغالية بكلّ ما فيها من قمَر بيروت ونَجمة بيروت وأَهل بيروت وليالي بيروت النابضةِ حَيَويَّةً وشمساً ذهبيةً لا تَدْنَقُ ولا تغيب حتى حين يَـحينُ كُلَّ يومٍ موعدُ الغروب.