“في تاريخ بيروت، من العصور القديمة حتى الحديثة، محطّات كثيرة عالَـجَها مؤَرِّخون من جنسياتٍ مختلفة اهتمُّوا بتاريخها تحديداً، وبتاريخ لبنان على وجه أَعَمّ. سوى أَنّ أَحداً منهم لم يعالج في التفصيل تجارة بيروت مع أُوروﭘـا إِبّان العصر المملوكيّ بين 1291 و1516، بسبب النقص في الوثائق العائدة إِلى تلك الحقبة”.
بهذه المقدمة أَطلّ الدكتور ﭘـيار مكرزل على كتابه “بيروت في العصر المملوكيّ وتجارتُـها مع أُوروﭘـا“، الصادر في الفرنسية عن منشورات الجامعة الأَنطونية في 846 صفحة قطعاً كبيراً.
ولأَنّ واقع بيروت كان هكذا، أَعادَ المؤلِّفُ تركيبَ إِطارٍ تاريخيٍّ ودورٍ اقتصاديٍّ لـمدينة بيروت في عصرٍ كانت خلاله على نُـمُـوٍّ مُشِـعٍّ وحركةٍ تجاريةٍ عاليةِ الازدهار.
يَنسُبُ ﭘـيار مكرزل هذا الاهتمام إِلى عناصرَ رئيسةٍ أَبرزُها أَهميةُ مرفَـإِ بيروت في تلك الحقبة إِذ كان مرسىً أَساسياً للسُفُن الأُوروﭘـية، خصوصاً لتفريغ الحمولة الموجَّهة إِلى دمشق. وفي وثائقَ عدّةٍ (أَهمُّها من البندقية) أَنّ مرفَأَ بيروت كان محورياً بين مرافئ المشرق، وركيزةً اقتصاديةً أُولى في تحوُّلاتٍ عمرانيةٍ شهدَتْها المدينة بفضل حركة المرفَـإِ ووَفْرة الرحلات والبضائع المتداوَلة وعدَد الحجّاج الوافدين إِلى بيروت أَو العابرين منها إِلى مُدُن مشرقيةٍ أُخرى، ما أَوجد تفاعلاً حيوياً بين بيروت والمرافئ الأُوروﭘـية، ما جعل مدينتَنا عنصراً أَساسياً لقراءة التاريخ الاقتصادي في حوض المتوسط ودراسة الآلياتِ الاقتصادية وتَطَوُّرِ المراحل السياسية والمزاولات التجارية بين مرافئِ الغرب ومرافئِ الشرق الأَدنى.
من هذا المنطلق أَسَّس الدكتور ﭘـيار مكرزل سِفْرَهُ على قسمَين كبيرَين ومقدِّمةٍ مستفيضةٍ وخلاصةٍ وافية، تَلَتْها ستةُ ملاحقَ مفصَّلة وجداولُ وبيبليوغرافيا مصادرَ ومراجعَ ووثائقُ ومخطوطاتٌ وخرائطُ وبياناتٌ وإِحصاءاتٌ كثيرةٌ و1666 حاشية توضيحية، ما يجعل هذا الكتابَ مفتاحاً رئيساً لبيروت في الحقبة الأَخيرة من القرون الوسطى، يـمُـرّ فيه تاريخُ المدينة في القرنَين الرابع عشر والخامس عشر، وتوافُدُ التجار الغربيين إِليها، ودورُها في حركة النقل البحري والبري، والتبادلاتُ التجارية فيها، وأَبرزُ مُدُنٍ تعاطَت التجارة مع بيروت منها البندقيّة وجَنَوَى وبرشلونة وفلورنسا ومرسيليا ومونـﭙـليـيه وسواها.
ويختُم المؤَلّف كتابَه بتفصيل حركة استيرادٍ وتصديرٍ بين الشرق والغرب عبر مرفَإِ بيروت، تُشير إِلى الدور الحيوي الفاعل لبيروت ومرفَإِها في عصر ٍكان انحطاطاً للمنطقة وازدهاراً لبيروت على صدر الشرق.
غير أَنّ ذلك لم يَدُم، وكان قدَرُ بيروت كما قَدَرُ لبنان، أَن يقتَتِلَ الغيرُ وندفعَ نحن الفدية: فبعد ازدهارٍ رائعٍ شهدَتْهُ بيروت طَوال قرنَين خصيبَين عليها وعلى أَهلها، ضَؤُلَ وهْجُها على خارطة التجارة المتوسطية بسبب حربِ تركيا والدول الأُوروﭘـية الكبرى، وتشتُّتِ مركز المتوسط، وتَحوُّلِ التيارات التجارية إِلى ما وراءَ الأَطلسي.
وانهيارُ وهجِ بيروت تلاهُ انهيارُ القوى الاقتصادية الغربية، وأَبرزُها البندقية التي كان وهجُها ساطعاً في كُلّ أُوروﭘـا.
كتاب الدكتور ﭘـيار مكرزل “بيروت في العصر المملوكيّ وتجارتُـها مع أُوروﭘـا” مرجعٌ أَكاديميٌّ موثَّقٌ لوجهٍ مُشرقٍ من تاريخ بيروت، يضاف إِلى مراجع شبيهةٍ ترى إِلى عاصمتنا اليوم ماضياً لها كانت خلاله بيروت زهْوَ مدُن الشرق ونبضَه الاقتصاديّ.