تقديمُ النقيب عصام كرم مكتبةَ والده كرم ملحم كرم إِلى جامعة “الحكمة” هِبَةً ووَديعةً، بادرةُ حرْصٍ من الابن لحفظ تراث أَبيه، لا لوضع اسمه على قاعةٍ في المكتبة وحسب، بل لتَوَفُّر المؤلفات، مخطوطها والمطبوع والصحف والمجلات المحتجِبة والكتُب المهداة إِليه، كنـزاً لبنانياً قد يكون مُهدَّداً على رفوف النسيان فيَخْلُدُ في ذاكرةٍ يحتاجها ثلاثة: غيابُ الأَديب، حضورُ قُرّائه، وتراثُ لبنان.
ولأَنه لا يعطى لكل أَديبٍ أَو فنان أَن يحظى بحفْظٍ واهتمامٍ ومتحفٍ كما حظي أَمين الريحاني وجبران والياس أَبو شبكة ومارون عبود ومصطفى فروخ وأَنطُون قازان وميشال أَبو جودة وبعض سواهم، ولأَنه لا يُعطى لكلّ مبدع أَن يحظى بمؤَسسةٍ جامعية أَو ثقافية تُقيم له معرضاً ولو عابراً لأَعماله وآثاره وأَغراضه، يأْتي وضْعُ هذه في عُهدة مَن يبني لها مستقبلَ ماضيها بادرةً يتمنّاها كُلّ أَديبٍ وفنانٍ ومبدعٍ وهو يُغمض عينيه للمرة الأَخيرة.
في غياب الاهتمام الرسمي عندنا بهذا الإِرث الإِبداعيّ الغالي، أُسوةً بدُوَلٍ راقية تهتمُّ رسمياً بحفظه في متاحف أَو أَجنحة خاصة تُـمسي سياحةً ثقافية، تبقى البادرةُ الفردية قصراً على أَهل المبدع بعد غيابه أَو مقرَّبين إِليه دارسين أَو عارفين أَو مهتمّين.
خلال إِقامتي في الولايات المتحدة مُدرِّساً الأَدبَ العربي في جامعة مِدْلْبُري (ولاية ﭬـيرمونت) بلَغَني أَنّ في تلك البلدة المتواضعة “كوخ روبرت فْروسْت”. قصَدتُه ذات غروبٍ فكان بيتاً صيفياً من ثلاث غُرفٍ ضئيلةٍ اشتريتُ بطاقةَ دخول لكي أَزورَه وأَجدَ فيه مؤلفات الشاعر وبعضَ بقاياه وكتباً مهداةً إِليه. ولم ينسَ حافظُو “الكوخ” أَن يتركوا على رفّ المغسلة أَمام مرآتها المنخورة بالصدأ شفْرةَ حلاقته وفرشاةَ أَسنانه. ولأَنّ مدخلَ الكوخ جسرٌ صغيرٌ فوق ساقية، سَـمَّوه “جسر روبرت فْروسْت”، عن جانبَيه أَحواضُ زهرٍ، وقُبالتُه في الحديقة العامة مقاعدُ على متّكـآتها أَبياتٌ من فْروسْت، وعند قَدَم كُلّ شجرةٍ بطاقةٌ معدنيةٌ عليها جزءٌ من قصيدةٍ للشاعر، ولا يمكنُ دخولُ المكان إِلا تحت لافتةٍ كبيرة تستقبلُ مزهوةً إِلى “حديقة روبرت فْروسْت العامة في مِدْلْبُري”.
طبعاً لا نطمح نـحن إِلى هذا الحدّ من الاهتمام “الرسمي”، المستحيلِ ولو بَعد قرون، لكننا نَضْرع لكلّ مبدعٍ من عندنا أَن يُبادرَ وَرَثَتُه أَو أَصدقاؤُه أَو المهتمُّون إِلى مؤَسسةٍ جامعية أَو ثقافية عُليا تَحفَظ تراثَه بعد غيابه كي يَطولَ نابضاً عُمرُ غيابِه، وهو ما كان الشاعر جوزف حرب تَـمَنّاه يومَ تضرّع: “يا ربِّ… نَـــجِّ قصائدي، بعد الغيابِ، من التراب“.
(السبت المقبل: 2/2)