يوم طلبتُ منه المشاركة في مهرجان “ثلاثون أَبو شبكة” أَجابني قبل الـموافقَة: “هذا شاعرٌ كانت له شجاعةٌ فائقةٌ في مواجهة العالم”.
لـكـأَنما، يومها، كان يعني ذاته بقدْرما يعني أَبو شبكة.
ذاته وذات مَن مِثْلُه يُواجه مثالب العالم.
بالثورة واجهَه، بالتمرُّد، بالرفض، بالــ”لن” ضدّ كلّ أَمرٍ وكلّ تيار وكلّ مأْلوف وموروث. وبنى في نزعته تلك أُسساً لوطَنٍ آخَر، لشِعر آخَر، لـنَــثْــرٍ آخَر، وظلّ يــبحث عن مآلٍ حتى وجدَه في الحُب.
من كان يقول إِن أُنسي الحاملَ السُّوط على كل التواء، ينهمِرُ رقيقاً أَمام الحبيبة ويعلن: “مَغْلوبُكِ”، فيرتفعُ صوتُه بالحنان إِلى “رسولةٍ” كانت شمسُها أَوسَعَ من عينيه، وسَطْوَتُها أَوسَعَ من احتماله، فهرَعَ إِلى الله ضارعاً: “سَاعِدْني. ليَكُنْ فِـيَّ جميعُ الشعراء لأَنَّ الوديعةَ أَكبرُ من يَدَيّ”، وخرجَ كتابُ “الرسولة” بين أَندَر كتُب الحُب وأَجمَلها في عصرنا.
بهذا الحُب واجه أُنسي العالم. بِــقُوَّة الحُب التي لا أَنبَل ولا أَجمَل حين “الرسولةُ” حقيقةً هي الحبيبةُ المنتَظَرَة لا منذ سنواتٍ بل منذ عصور. الحبيباتُ الحقيقياتُ لا يُؤْتى لَـهُنَّ الـمَجيءُ كسائر النساء. إِنهنَّ النعمةُ التي لا تُعطى إِلاَّ كلَّ عصرٍ أَو أَكثر.
إِلى هذه الحبيبة هفَا أُنسي فكان “إِيكار”. علا إِليها طويلاً حتى اقتربَ منها وهي الشمس فذاب شَمعُهُ وسقَطَ في بحر الصمْت. واستمرّ يـبحثُ عنها وهو طائرٌ إِليها صدّاح، كما وهو هابط من علواتِها خائباً. بقي القلَق يَسري في كلماته حتى إِذا كسَرَتْه مرارتُها آثرَ الصمتَ وانسحب إِليه مُـتَـنَـسِّـكاً في صومعة الليل عاش فيها بقيّةَ حياته.
سوى أَنه، حتى في صمته، ظلَّ يقتات من ذاك الحُب الذي عاشَه عنيفاً في شجاعة الإِقرار بالرقّة والطاعة، بالابتهال والانسحاق، برجولة الاعتراف أَمام هالة الأُنُوثة الطاغية: “أُقسِمُ أَن أَكونَ لُعبتَكِ ومغلُوبَكِ… أَن أَنسى قصائدي لأَحفَظَكِ… أَن يَطيرَ عُمري كالنحل من قَـفير صوتِكِ”.
وكانت شجاعَـتُه هَدْياً لاعتراف العاشق جِـثِـيّاً على رُكبَتَي حَبيبَته.
في كلمته عن أَبو شبكة يومذاك (12 آذار 1977) قال: “بقي العالم ورحَلَ أَبو شبكة لكنّه سيبقى ولو غاب. العالم يبقى ليَصطادَ العصافيرَ ويَسجُـنَها، وأَبو شبكة يَبقى ليُطْلِقَ في العالم سَراحَ العصافير”.
لكأَنما يومَها، أَيضاً وأَيضاً، كان يعني ذاتَه بقدْرِما يعني أَبو شبكة.
ولم تُخَيـِّب أُنسي العصافير: لحظةَ أَخذَه الموتُ قبل أَيام لم يأْخُذ منه سوى الجسَدِ الضئيل. أَما روحُه فباقيةٌ زيتاً دائِمَ الاشتعال في قناديل العاشقين.