نقطة على الحرف- الحلقة 1140
ليست مِـزاجاً ولا مِـزاحاً
الأَربعاء 26 شباط 2014

 

        إِذا كان آذار شهرَ الربيع في الطبيعة، فهو لدى الدُّوَل الفرنكوفونيّة هذا العام يحمل شعار “لا مزاحَ مع الدُّعابة”، وينسحب على جميع الأَعمال الثقافية الفنية والأَدبية واللُغوية، ليُضْفي على لُغَتِها الأُمّ مِسحَةَ الدُّعابة والظُرف والنكتة والفكاهة، كما لـمواجهة مآسي العالم بالضحكة والبسمة والمزاج الهنِيّ.

          وعلى الأَرض عندنا؟ ماذا على الأَرض؟

          فيما العالم الفرنكوفونيُّ يستمدُّ من الدُّعابة شَهْره الربيعيَّ، يَغرقُ العالم العربي في حالاتٍ عاكسةٍ واقعَ الشعوب العربية ومرارةَ حياتها اليومية في أَعمالٍ إِبداعيةٍ أَدبيةٍ وشعريةٍ وروائيةٍ ومسرحيةٍ وسينمائيةٍ وتشكيليةٍ وموسيقيةٍ من أَجواء الموت والحُزن والقَهر والتَّشرُّد واليُتْم والتَّرَمُّل والمآسي الفردية والجماعية لِـمُهَجّرين ولاجئين ومشرَّدين في بلدانهم أَو بلدان الآخرين. وتموج الساحةُ الثقافية العربية بهذا الجو التذكيري المباشِر أَو الاستعادي، يُضفي سوداويةً على سواد النهارات المريرة، وإِذا ما مَرَّت بسمةٌ فيه فدُعابةٌ سوداء تُضحك من شدَّة البُكاء.

          الأَعمالُ الإِبداعيةُ، في كلّ بلدٍ وكل عصرٍ، مرآةُ مجتمعِها ذاتُ اتجاهين: مستريح هانئ أَو دراميّ مأْساويّ.

          الفرنكوفونيا أَخذَت الاتجاه الأَول، والعَرَبُوفونيا اتَّخذَت الأَخير، تماماً كقِناعَي المسرح: واحدٌ ضاحكٌ والآخَر باكٍ.

          وهي مرحلةٌ صعبة يمر بها العالم العربي تسجِّلُها له ذاكرةٌ إِبداعيةٌ تتخطّى الراهن الحاليّ إِلى الآتي من الأَيام.

          الذاكرةُ الإِبداعيةُ غيرُ التأْريخ. هذا يدوِّن الحاضر وينتهي دورُه مع انتهاء الحاضر. تلك تستمدُّ من الحاضر مادةً تُسجِّلها للأَجيال اللاحقة كي تتذكَّرَ ماذا كان وكيف كان وتتَّعِظ أَو تتأَمّل أَو تهتدي أَو تتجنّب.

وفي الآداب والفنون، لدى كلّ شعب، أَعمالٌ تستعيد مآسي هذا الشعب طويلاً بعد حُصولها (في مسرحيةٍ أَو قصيدةٍ أَو لوحةٍ أَو سمفونيا أَو فيلمٍ أَو رواية) فتكونُ تلك الأَعمالُ ذاكرةً استعاديةً لذاك الشعب وشهاداتٍ حيةً لأَجياله الجديدة، كما لوحة “غيرنيكا” ﭘـيكاسو تستذكر قصفَ طائراتِ الأَلمان والإِيطاليين مدينةَ غيرنيكا الإِسـﭙـانية، كما افتتاحية تشايكوﭬـسكي الموسيقية “1812” تستذكر دفاع روسيا عن أَرضها ضدّ غزوة ناﭘـوليون بجيشه الجحفل سنة 1812، كما فيلم الأَخوين رحباني “سفَر بَرلِك” يستذكر فُصولاً مُـرّةً من عذاب اللبنانيين أَيام الاحتلال العثماني أَرضَ لبنان.

قوّةُ الأَعمالِ الإِبداعيةِ أَنها ذاكرةُ الشعوب وتَذهب بعيداً في تسجيلها الحدَثَ والانفعال به، فلا حدودَ لـمَا يُنتِج هذا الانفعال.

          وإِذا آذار الفرنكوفونـيّ ربيعٌ للدُّعابة والنكتة والمزاح والفكاهة، فمتى الربيعُ العربي ينفرجُ عن ربيعٍ للشعوب العربية يَكونُ حقاً مُزْهراً بالطمأْنينة والراحة والهناءة والمزاج السعيد، فتَصدُر أَعمالُه الإِبداعيةُ لوحةً أَو قصيدةً أَو روايةً أَو فيلماً أَو مسرحيةً خارجَ أَجواء هذا النفَقِ الأَسود الذي نَعبُرُهُ منذ سنواتٍ ولا فجرَ قريباً يَلوح.

          إِنها فترة مُرَّةٌ للعالم العربي ليسَت مِزاجاً ولا مِزاحاً.

أَمَلُ الشعب العربي، ولبنانُ قلبُه النابض، أَن تَنقضي هذه الفترة فيكونَ آذارُ الربيع ربيعاً ضاحِكَ الـمزاح، بَاسِمَ الـمِزاج، طريفَ الدُّعابة، ظَريفَ النُّكتة، تَنتُجُ عنه أَعمالٌ إِبداعيةٌ تَترُكُ للأَجيال العربيةِ الـمُقبلةِ تراثاً هانئاً يتجلّى نابضاً بذَينِك الـمِزاح والـمِزاج.