نقطة على الحرف- الحلقة 1137
كلماتُهم بَــيــن التلميح والتصريح والتجريح
الأَربعاء 5 شباط 2014

          ينشغل الوسط البريطاني منذ الأُسبوع الماضي، ومعه عشراتُ الـمواقع الإِلكترونية، بلقطة ﭬـيديو من دقيقة و23 ثانية، تَظهَر فيها الليدي كاثرين مِدْلْتُون سنة 1995 في مشهدٍ من مسرحية جورج برناردشو “ﭘـيغماليون” تتعلَّم فيها لفظَ عبارة خاليةٍ من المعنى لكنها تُدَرُّبها على اللفظ السليم، وهي العبارة التي اشتهرت بها في المسرحية بياعةُ الزهور الفلاَّحة إِيليزا دوليتْل (تَحوّلت إِلى “سيّدتي الجميلة” ولعبَت دورَها جولي أَندروز على مسرح برودواي – 1956، وكاثرين هــﭙــبــورن في الفيلم – 1964).

          وما كانت العبارةُ مهمةً، ولا مهمةً تلك الإِطلالةُ المسرحية، لو لم تكن الصبيَّة بنتُ الثالثة عشرة في ذلك الحين مَن هي اليوم زوجةُ الأَمير وليم ابن الليدي الراحلة ديانا ووليّ العهد الأَمير تشارلز.

          رمزيةُ هذا القصة أَنّ مشاهير السياسة يستأْثرون باهتمام الناس في ترديدهم عباراتٍ خاليةً من المعنى، ما إِلاّ كي يَنطُقوا بكلماتٍ ينتظرها الناس خُطَباً مفيدةً وهي في جوهرها خاليةٌ من كل إِفادة.

          وكي لا أَذهب بعيداً إِلى بريطانيا، أَبقى عندنا في لبنان وأُكرّر بعض ما يسمعه الناس يومياً في تصاريح سياسيينا وخُطَبِهم: “الكتلة الوسطية”، “حكومة حيادية”، “حكومة ميثاقية”، “حكومة سياسية”، ” حكومة جامعة” ، “حكومة واقع”، “حكومة أَمر واقع”، “حقيبة سيادية”، “حقيبة خدماتية”، “حقيبة ثانوية”،”الـمُداوَرَة”، “الـمُناوَرَة”، “الـمُشاوَرَة”، “الـمُحاوَرَة”، “الـمُراوَحَة”، الـمُطارَحَة”، “الـمُصارَحَة”، “الـمُشارَحَة”، “التنظير”، “التحذير”، “التبرير”، “التقرير”، “تدوير الزوايا”، “خلط الأَوراق”، “أَطفأَ الـمُحرِّكات”، “أَدار الـمحرِّكات”، “المصلحة الوطنية”، “مصلحة البلد”، “ضرورة تأْليف حكومة”، “الإِسراع في تأْليف الحكومة”، عبارات الشَّجْب والاستنكار والإِدانة (عند وقوع انفجارٍ أَو حادث أَمني)، “ضبْط النفْس”، “الوعي الوطني”، “الوحدة الوطنية”، “التعايش”، “العيش الـمُشترَك”، “فريق الـمُمانعة”، “فريق الـمُوالاة”، “التمسُّك بحقيبة وزارية”، “حقوق المسيحيين” (الـمتعلِّقة بِـذَيْل حقيبة وزارية!)، “الـميثاق الوطني”، “تعديل الدستور، “الـمؤْتمر التأْسيسي”، “دولة القانون والـمُؤَسسات”، “رفْض إِعلان بعبدا”، فرْض “ثلاثيّة الشعب، الجيش، المقاومة”، إِلَـخْ…إِلَـخْ… إِلَـخْ… وجميعُهم يُـمارسون النَّخّ والبَخّ والفَخّ، والوطن يغرق تحت أَطنان تصاريحِهم وخُطَبِهم وحَلَقاتهم ولقاءاتهم، وهُم عائمون على بَـحرٍ من الحكي الفارغ الطنّان، يَتَغَرغَرُون به، يترغْرغُون به، يتشدَّقُـون به، يتمَنْطَقُون به، ويزاولون التَّسَيُّس الدّيني والتَّدَيُّن السياسي، والناس خائفون قلِقون متوجِّسُون من انفجار هنا، وانتحاريّ هناك، وتفخيخ هنالك، ويتعاظَم خوفهم أَكثر لا كلّما وقعَت كارثة بل كلما انفتحَت حَيالها شهيَّةُ السياسيّين على التصريح والتلميح والتجريح والتشريح، لأَن كلامَهم يَزيدُ المواطنين قلقاً لكثرة ما في كلامهم من فراغٍ وخُواءٍ وبَبَّغاويَّةٍ لم تَعُدْ تُقْنِع أَحداً من الناس الذين طفَح في قلوبهم الكَيْل، ولم يعودوا يرَون في حكي السياسيين إِلاّ ازديادَ الويل.

          وإِذا عبارة الليدي كاثرين مِدْلْتُون في المسرحية لا معنى لها ولا خطرَ فيها لأَنها مجرَّدُ تمرين على اللفْظ والأَداء، فكلام معظمُ سياسيينا على مسرح الوطن لا معنى له أَيضاً لكنه مَليءٌ بالخطر لأَنهم واهمون بأَنهم يعالجون مشاكلَ الوطن فيما هم أَصلُ مشاكلِ الوطن لأَنهم يَتَوَلَّون مسؤُوليةَ قيادةٍ ليسُوا أَهلاً لها ويَقودون الوطن إِلى هاويةٍ مُرعبةٍ توشك أَن تقضي، بِـجَهْلهم، على مستقبل الوطن.