حرف من كـتاب- الحلقة 154
“غسان تويني”- دار النهار
الأَحـد 2 شباط 2014

vdl_154_Ghassan Tueni

          كأَنه لم يغِب. أَو كأَنَّ غيابه فصلٌ آخَرُ من حضوره الـمُـتَواصِـل.

          هذا رجلٌ بلغَ من الأُسطورة في حياته ما جعلَ موتَه هو أَيضاً من قاموس الأُسطورة.

          ومن مملكته “دار النهار” صاحَ هذا الأُسبوع ديكٌ جديدٌ في شكلِ كتابٍ أَنيقٍ يشبهه دقّةً وحِرصاً وتَأَنُّقَ قَـول.

          لم يحمل عنواناً. ولـمَ العنوان واسمه وحدَه عنوان؟

          “غسان تويني“، وكفى كي تبدأَ صفحاتُ الكتاب تنضحُ بوفاء زملائه وأَصدقائه وعارفيه وحلقة الوفاء العالي.

          240 صفحةً في حجمٍ موسوعي كبير وصُوَرٍ في أَبيضها وأَسْوَدها والأَلوان من حياته الغنية الحضور بأَنشطةٍ محلية وعالمية وفي مملكته الصغيرة راس كفرا، ونصوصٍ في العربية والفرنسية والإِنكليزية، له بعضُها وعنه معظَمُها، وجميعُها تَشهد منه وعنه وإليه.

          ميشال إِدّه لِـمقدِّمةٍ وجدانية، شادية الخازن تويني رفيقة العمر الثاني، نايلة وميشالّ جبران تويني لوفاء الحفيدتَين، ثم فصلٌ أَوَّلُ للشهادات النابضة بالذكرى والذكريات: الرئيس أَمين الجميل، دومينيك دوﭬـيلـﭙـان، عصام فارس، الأَمير طلال بن عبد العزيز، الأَخضر الإِبراهيمي، منى الهراوي، نازك رفيق الحريري، المتروﭘـوليت الياس عوده، عبدالعزيز خوجة، نوّاف سلام، الأَب سليم عبو، علي غندور، دومينيك شوﭬـالييه، ميرنا البستاني، سعاد الصُّبَاح، فيليـپ سالم، ﭬـينوس خوري غاتا، فرنسوا عقل، شبلي ملاَّط، أُنسي الحاج، رندة تقي الدين، صلاح ستيتيه، سامية شامي،… وآخرون رسموا بالكلمات صورتَه الضالعة فيهم.

          وفي فصل ثانٍ “بيوغرافيا حميمة وعاطفية” مشغولةٌ بالنص مطرَّزةٌ بالصورة، من مروان حمادة، أَدونيس، وغسان تويني باعترافاتٍ وأَفكار تحاور الورق، ليجيْءَ الفصلُ الثالث الأَخير بإِطلالاتٍ من التذكار في ذكريات عيسى غريِّـب، سمير عطالله، كلوﭬـيس مقصود، أَحمد بيضون، فارس ساسين، مي منسّى، المتروﭘـوليت جورج خضر، وخاتمة الكتاب صورة الغسَّان التي بها أَشرق غلافُه على عبارة “لا العمرُ ينسُج الشيخوخة، ولا الشيخوخةُ تُتيح الحُكْمَ على العُمْر”، ومن سفر أَيوب: “ما يُعطي الذكاءَ هو الفكرُ، نفحةُ العلِيّ القدير”.

          وهكذا كان غسان تويني: أَيُّـوباً من عصرنا ضرَبَتْهُ زلازل المصائب بلا رحمة فَخَطَفَتْ من قلبه: نايلة الطفلة، ناديا شاعرةَ العمر الأَوّل، مَكْرَم، ثم جبران، وفرِغَتْ أَمامه الحياة من عيون الأَحبّة فواجَهَها بقلَمٍ ماردٍ لا يَهُدُّهُ بُركانٌ ولا يُحْرِقُهُ انْهيار جَبَل.

          ليس كتاباً هذا الـمَفتوحُ أَمامي بل أَثرٌ فنيٌّ تَأْريخيٌّ جدير بالاسم الذي يحملُهُ، والذي كانت أَحبَّ لحظاته إِليه: أَن يَنسحب إِلى خَلْوَتِه الحميمةِ في راس كفرا، بين ملائكةٍ من كُتُبٍ ولوحاتٍ وأَيقونات، ليُمسِكَ برفيقه القلَم الدائم، ويَكتُبَ يَكتُبَ بِلا انقطاع، ويَحلُمَ يَحلُمَ بِلا انقطاع، حتى لَـهْوَ يعترفُ ذاتَ يوم: “لا إِخالُني أَحلُم، حتى ولو كان حُلْماً، فأَيُّ بديلٍ عن الحُلْم؟ أَفضلُ من التسليم بالواقع الاستسلامي: أَن نَخْلُقَ نَحنُ أَمراً واقعاً جديداً”.

          وهكذا فعلاً، غسان تويني: ظَلّ يحلمُ بهذا الأَمر الواقع حتى خلَقَه واقعاً منيعاً تحصَّن به مُـحتمياً من عويل الفواجع.