أَزرار- الحلقة 828
عابــرُ السياسة وخـالدُ الأَدَب
السبت 25 كانون الثاني 2014

          أَيكونُ الأَدب مَنْفذاً للأَديب من السياسة؟

          وهل تكون السياسة اتجاهاً ينحو إِليه الأَديب التزاماً ينضبط فيه فــ”يَحُدُّه”؟

          عن ستندال أَنّ “السياسة في عملٍ أَدبي رصاصةُ مسدسٍ وسْط كونشرتو”. ويتواصلُ الجدَل بين الأُدباء حول منحى الكتابة وهوية الالتزام، بين رأْي فلوبير أَنّ “قيمة النص الأَدبي هي في ذاته: أُسلوبه، براعته، معالجته”، ورأْي هوغو أَنْ “طالـما في الأَرض مجاعاتٌ وبؤْسٌ وظالـمُون ومظلومُون، لا بدّ للأَدب من دَورٍ وصوتٍ وحضور”.

          هذا الأَمر يقود إِلى جوهر الأَدب ورسالة الأَديب: الجوهر المنفصل عن أَرضه يذوي، والرسالةُ الطالعة من إِقليم غيرِ تُربتها لا تبلغ مرماها. أَخلَدُ الأَدب رواية تعالج موضوعاً من قلْب مجتمعها، ومسرحيةٌ من قلْب واقعها، وقصيدةٌ من قلب شاعرها، بدون أَن تكون الرواية سرداً صحافياً لأَحداث سياسية، ولا المسرحية “شانسونييه” آنية لأَخبار السياسة والسياسيين، ولا القصيدة أَرُزّاً لـموكب العروس أَو زيتاً لبارودة الـمُقاتل.

          إِذا السياسة فنُّ الآنـيّ والـمُتغَيِّر، فالأَدب فنُّ الثابت الباقي. لذا سقط في الزوائل مَـن وظَّفوا أَقلامهم لـمَدح الـحُكّام أَو كتبوا نصوصَهم انتصاراً لـحدَث أَو مناهضَةً وقائع. هذا لا ينفي العلاقة الوثقى غالباً بين الأَدب والسياسة، فالأَدب يصقل المواطنين وبينهم السياسيون، وفي التربية والتعليم إِحداثُ الوعي النقدي في أَذهان التلامذة بتعريفهم إِلى الآثار الأَدبية التي، بغناها وأَعلامها، تغذّي ذاك الوعي النقدي مع اغتذائهم من الذائقة الفنية للكتابة والجمال والقيم العليا.

          الحاكمُ المثقَّف يقود بلاده وشعبه إِلى حيثما لا يقوده حاكمٌ جاء إِلى السلطة من دون شُحنة جمالية في ضميره. وليس كالأَدب يغذّي هذه الشحنة، وكالفنون الجميلة لجعلها معبراً إِلى العدل الحليم.

          الروائي الذي يتناول أَحداثاً سياسية مادة لروايته لا يصوِّرها فوتوغرافياً وإِلاّ ليس يُضيف أَو يؤثِّر، بل يرسمها بتأَنّي الريشة التي تتناول المشهد فتنقلُه ناطقاً وتَخرجُ منه بأَثَر مطيَّب. هكذا يُخلِّد الروائي أَعلام روايته بثبات الشخصية الروائية لا بنسْخ الشخص الأَصلي. وهكذا خلدت مؤَلفات جعلت من الأَصل السياسي نسخةً أَدبيةً حيةً لا تنطوي كما انطوت حياة سياسيين كانوا مادة تلك المؤلفات.

          صحيحٌ أَنّ في التاريخ رجالَ سياسة خلدوا بما أَنشأُوه لبلدانهم خصوصاً وللإِنسانية عموماً، وأُدباءَ مضَوا مَنسيين بدون أَثر بعدهم، لكنّ السياسة إِجمالاً صورةٌ فوتوغرافيةٌ آنيةٌ لـمكان وزمان، يتناول منها الأَدب ما كان بالأَبيض والأَسود، فيُحوِّلها لوحةً متأَنّية تتَجَمِّل أَلوانُها لكل مكان وزمان.

وهذا هو الفارق الجوهري الدائم بين عابِـر السياسة وخالِـدِ الأَدب.