عمَلاً بمبدإِ أَنّ “وطنَ الإِنسان لغتُه” إِذا اغترب عنها اغتربَ عنه، تبقى العربية، شفاهةً وكتابةً، وطنَ الناطقين والكاتبين بها أَنى توجّهوا على الكوكب. وإِذا كان أَليفاً أَن نشهدَ سفراءَنا في العالم يخطُبون بلغة البلاد الـمُنتدَبين إِليها، فنادراً ما نشهد سفراءَ أَجانبَ عندنا يخطُبون بالعربية أَو يكتبونها.
بهذه النُّدرة السعيدة تابعْنا ندوة “اللغة العربية وأَخواتها” في جامعة القديس يوسف بدعوة من كلية اللغات فيها ومؤسسة الحريري لـمناسبة “اليوم العالمي للُّغة العربية” (كما عيّنته منظمة الأُونسكو سنوياً كلّ 18 كانون الأَوّل)، وأَصغينا إِلى سُفراء أَجانب يحاضرون بالعربية السليمة كتابةً وبعضَ نُطْق.
ليست عارضةً ولا عابرةً هذه الظاهرة. العربية إِحدى ست لغات رسمية معتمَدة في الأُمم المتحدة. فهي “عنصرٌ أَساس في توسيع فضاء مشتَرَك يُشَكِّل للتنوُّع اللغوي وحدةً تكاملية” (من كلمة سلوى السنيورة بعاصيري، المديرة العامة لمؤسسة الحريري) وهي “مساحةُ لقاءٍ يعانق الحاضر والمستقبل بقدْرِما هو آتٍ من الأَمس” (من كلمة الـﭙـروفسور هنري عوَيس عميد كلية اللغات).
وإِذ العربية “تفخَر بماضيها ولا تبقى لغة الماضي، وهي أَغْنَتْ حياتي الشخصية والمهنية” (من كلمة الهولندية أَنجلينا إيـخْهورست سفيرة الاتحاد الأُوروﭘـي)، وهي للأَجانب “وسيلةُ اتصال حي وتواصُل حيوي” (من كلمة سفير فرنسا ﭘـاتريس ﭘـاولي)، يتَّضح كم العربيةُ لم تعُد جامدةً في مَساكنها – لاغتراب بعض أَهلها المعنيين وهجرتهم إِلى لغات الآخرين- بل هي متحركة مع العصر. وليس صحيحاً أَن التكنولوجيا أَسهل في اللغات الأَجنبية لأَنّ العربية لا تتّسع ولا تستوعب. فثمة برامج إِلكترونية لا تقلّ عملانيةً وفاعليةً عما هي في اللغات الأَجنبية.
والعربية باتت لُغةً أَساسية في جامعات عالـمية كثيرةٍ تخصّص أَقساماً للُّغة العربية وآدابها وثقافتها (جامعة أُتَوَى في كندا وجامعات كبرى في الولايات المتحدة). فهي إِذاً لغةٌ معطاءةٌ أَغنَتْ بمفرداتها أَخواتٍ كثيرات، وهي لغةٌ مَرِنةٌ باستقبالها مفرداتِ أَخواتها. هي تشُعُّ وتقتبل، فليفتح لها المجالاتِ لُغَوِيُّوها وأَعضاءُ مجامعها العلمية وأُدباؤُها كي تظلّ في التداول فتبقى حيّةً ما بقي استعمالُها حياً، كما في لغة الحجيج من كلّ العالم.
المطلوب من مُبدعيها تقريبُها من اللسان وإِبعادُها عن مفرداتٍ صعبةٍ تُهَجِّرُ مستخدميها إِلى لغات الآخَرين.
اللغةُ الحيةُ هي لغةُ اللسان، وتبقى حيةً ما اقترب مكتوبُها من مَـحكيِّها فلا تَسقُط من اللسان.
وإِذا في العربية برزخٌ بين محكيِّها والمكتوب، فهذا غنىً وليس عائقاً.
يبقى أَن يقومَ من يَعرف كيف يَــثْــرى ويُــثْــري من خيرات هذا الغنى.