أَعودُ إِلى لغتنا، راهنِها وضرورةِ تطويرها، إِلى لغات اللُّغة وشأْنُ كلٍّ منها أَن تُغْنيها. فهل ما يولد منها يُغْنيها؟
إِقرارُها لغةً رسميةً في الأُمم المتحدة والاحتفال بـ”اليوم العالمي للّغة العربية” كلّ 18 كانون الأَوّل يكرِّسان لُغتَنا مستقلَّةَ الاحتفاء خارج “اليوم العالمي للُّغة الأُمّ” كلّ 21 شباط كما أَقـرّته منظمة الأُونسكو.
هذا الاهتمامُ العالميُّ يأْخذنا إِلى التَّفَكُّر بالحفاظ على العربية لغةَ اتِّصالٍ (عربي-عربي) وتَواصُلٍ (عربي-عالمي) كما تُبرزُه احتفاليةُ مؤَسسة الحريري وكليّةُ اللغات في جامعة القديس يوسف: “اللغةُ العربية وأَخواتُها” الأَربعاء 18 كانون الأَوّل الجاري.
وبـــ”التَّفَكُّر” أَحرص على اختيارها هدَفاً أَوّلَ للحفاظ على تُــراثها الثَّريّ، مؤَلَّفاتٍ ومؤلِّفين، وعلى تفعيلها كي تعانقَ العصر لا لغةً “أُخرى” بل لغةً “أَساسية” في مجتمعنا الحاضر، ومستقبلِه مع أَجيالنا الجديدة.
في الدراسة اللسانية السوسيولوجية الـمُعَمَّقة “الشباب ولُغة العصر” أَوضح الدكتور نادر سراج أَكاديمياً وميدانياً كيف أَنّ “اللغة الحية لا تَشيخُ بل تتجدَّد مع كلّ عصر وكلّ جيل” وكيف أَنّ لغتَنا “نموذجٌ ديناميٌّ يتصدَّر واجهةَ المشهدِ اللغويّ اللبناني فتتردَّد أَصداؤُه في أَكثر من بيئة لغوية عربية… بفضل تنوُّعاتٍ وتجديداتٍ لغويّةٍ تُلوِّن فضاءَنا الاجتماعي الثقافي الخصيب المنفتح على الآخر”.
وهذا ما تعتمده الفرنكوفونيا بانتدابِها لِـجاناً تَجُول على الدُّوَل تستخلص منها وتنثر فيها عباراتٍ وتعابيرَ ومفرداتٍ يُنشئُها العصر والمكان مُخاطَبةً واستعمالاً، فتؤُول إِلى مختبرٍ لغويٍّ يَصهرُها فينتقيها ويُرسلُها إِلى الأَكاديميا الفرنسية للموافقة والإِقرار فتَغْنى اللغةُ الفرنسية وقاموسُها وتُغني تالياً مستخدِميها في كلّ عصرٍ ومكان.
هذه الحاجةُ إِلى تطوير العربية مُـجاراةً عصرَها تُلحُّ على مجامع لغوية شأْنُها أَن تحدِّث اللغة بما لا يَخون متنَها ولا يرهقُها بجديدٍ نافل بل يغْنيها بقاموس العصر ينطق به اللسان قبل القَلم فيتأَطّر في السياق المقبول بلا إِعجامٍ ودخيلٍ هَجين. فاللغة كائنٌ حيٌّ ينمو ويتطوَّر، يشيخ منه غير المتداوَل، ويولد له أَولاد يسيرون مع العصر ويصيِّرون العصر مُجانباً جديدَ اللغة فلا تتأَخَّر عن علوم أَو معارف أَو مداركَ يأْتي بها العصر، بتقريب المحكيّ من المكتوب والعكس، لأَن العربيةَ ذاتُ استعمالَين، ناطق ومكتوب: المكتوب ليس منطوقاً والمحكي ليس مكتوباً بالمتعارَف الاصطلاحي.
ولكي تكونَ العربيةُ لغةَ العصر فتفتحَ قاموسَها للعصر ومستجدّاته كما أَخواتها اللغات الحية، وجَبَ أَن تحافظ على جوهرها “مؤسسةً اجتماعيةً تنتقلُ من جيلٍ إِلى آخَر مروراً بمراحل تطوُّرٍ تفرضُها النُّظم الاجتماعية” كما أَوضحَ نادر سراج في كتابه الأَكاديمي.