هنري زغيب يفتح قلبه لـ”الرياض” ويكشف أسرار حبيبته (2013)
على المكشوف
أعيش بقية حياتي بـ«قصة حب»..
ولم أكن يوماً على هامش الرصيف
في لقاء صحافي
عبير البراهيم
تأنق كثيرا قبل أن يسرد هذا البوح الوردي.. قال لي مبتسماً، منسحباً إلى الفضاء “احتاج للتحريض حتى أمارس جنوني.. ولكنه بعد أن أمسك بالقلم كتب ليفضي لي بكل ما حمل قلبه من هبل وتوق وحنين وليقول (لم أعد أخاف الموت بعد الآن بعد أن اكتشفت الحب الحقيقي، فإن الحياة لاتعني لي سوى أن تكون تلك الحبيبة راضية) .. يضع القلم ليعود إلى الطريق القديم الذي مر منه إلى هنا، مازال يشعر بأن الحزن لم يستطع يوماً أن يوقفه أو يجعل منه كائناً على هامش الرصيف ففي كل محطة في حياته كان هناك فرح وأغنيات ووطن يعشقه حينما يجد بأنه لاينتظر الوفاء من أحد، فجميع الاحتمالات مفتوحة على احتمالات أخرى أوسع منها ولكنه لايترك للفخاخ أن تتصيد قدميه فمازال يحتفظ بخصوصية حياته لمن وجدها أخيرها في نهاية الطريق لتتحول إلى “عشق عمره الحقيقي”.
هنري زغيب يفتح قلبه لـ«الرياض» ويكشف أسرار حبيبته
الشاعر اللبناني ” هنري زغيب ” يرتدي هنا معطف الحب، يضع في جيوبه أشواقه ويرتدي قبعة الصدق الذي أكتشفه مؤخرا بعد الكثير من الضفاف الزائفة الوهمية التي لم يعد منها نادماً.. يتعطر بعطر الحياة ليلتقي المرأة التي أعادت له الحياة في شكلها الملون، هناك حيث يتحاشى اللون الأسود “لأنه قرر أخيرا أن يشيح بوجهه عن العتمة ويختار الضوء.. وبعد كل ذلك يقسم هنا وللمرات العديدة بأن الروح مفتوحة لها فقط، وبأن النوافذ مغلقة لأنه اختار أن تنجو حياته من جميع الزلازل تلك التي يصنعها الكاذبون.. ولكنه بعد كل ذلك الجنون والعشق يصمت قليلاً.. ليقول لي ” لم أعرف الخوف يوما إلا حينما أحببت.. هذا الحب يعادل عمري كله”.
تلك الطيبة تجعلني اندفع بسرعة قبل أن أعرف حقيقة من أنتفض لأجله
هنري زغيب عبر المكشوف.. يدخل مصيدة البوح.. ولكنه أمام كل الأسئلة يجيب عن حالة واحدة فقط ليبقي الحياة أكثر اشتهاء ودهشة وطيشاً.. يجيب عن سؤال الحب بحكاية قناعاته الأخيرة في الحياة والتي أصبحت تدور حول “حقيقة العشق وكيف يخلقك كائن جديد”.. نعم.. هنا يتذكر، يفرح، يعشق، ويعاهد على الوفاء ويفعل جميع ذلك بسرعة واحدة، في لحظة واحدة ولكن دون أن يبوح بسر المرة الأولى التي جمعته بتلك الحبيبة.
العناق صدق.. ولا صدق يوهب إلا للحب الحقيقي
طريق الفرح
* تمرُّ الأَيام كأنها تقتصّ من أحلامنا، أوهامنا، أمانينا، ابتساماتنا. حتى دموعنا تأْخذها معها في منتصف الطريق. تمرُّ ويمرُّ العمر بنا، وننسى أَننا على هامش الرصيف وقفْنا، وعند ذاك المقعد بكينا. أَيامٌ تذهب وأُخرى تجيء، ونحن نستطعم الوجع والفرح معاً. ماذا تذكر من أَيامك التي مضت؟ وكيف طعمُ أَوجاعها؟
– لم أَكن يوماً على هامش الرصيف. منذ مطالعي شَققْتُ طريقي إِلى عالم الكلمة. باكراً بدأْتُ. شِعراً ونثراً بدأْتُ. وباكراً أَخذتُ أَنشر. ولم تحمل بواكيريَ يوماً غيمةَ حزنٍ أَو مُناخَ أَسى. صحيحٌ أَنني مررتُ في صعوبات، لكنّها لم تُحوّلْني يوماً عن صميم الطريق، ولا عرفتُ في حياتي وُقوفاً هامشياً حيادياً على رصيف العمر. لم تقتصَّ الأَيامُ من أَحلامي بل اعتدتُ دائماً أَن تتحقّقَ في عُمريَ الأَحلام. قد تطول أَحياناً لكنّها تعودُ فتتحقّق. وما عرفتُه من حزنٍ في مفاصلَ من حياتي لم يظهَر في شعري، لأَنني نذرتُ لشعري، منذ مطالعه، أَن يحملَ الفرح والجمال والرجاء الدائم. لذا لا يمكنني القول إِنني عرفتُ أَيّاماً وُجعَى في حياتي. كلُّ ما أَذكر من أَيامي: ذكريات فرح أَو على طريق الفرح.
خشيت أن يداهمني الموت قبل أن أعرف «جنة الحب»
أربع وعشرين ساعة
* كتبتَ يوماً ( أُريد وقتاً خارج الزمانْ، أُريد ساعاتٍ بلا دقائق، تُقَرِّب الآن إِلى ألما بعد. أُريدني أَستبق اللحظةَ، أَستعير من ومضة الآتي لي عالماً لا يعرف الجمود).. كم عشتَ هكذا من عمرك؟ وبِمَ قرَّرتَ أَن تُؤَثِّثَ سنواتك المقبلة؟
– هذا صحيح. أَنا مُطّلِّبٌ دائماً وقتاً خارج الزمان أَعرفُ أَنني لن أَناله لأَنني مُسوَّرٌ بالساعات الأَربع والعشرين وبالأَيام السبعة وبالجِهات الأَربع، فلا يمكنني أَن أَمُدَّ يدي خارِجَها لأَسْتَعير منها وقتاً مُضافاً. لذا عِشتُ طوال عمري أَعمَل على إِخصابِ الوقت بالإِنتاج الأَدبي أُؤثِّثُ به حاضري وأُؤسٍّس لسنواتي المقبلة. ولم يخذلني اطِّلابي، فالوقت عندي ممتلئٌ كتابةً منذ مطالعي، وهذا ما ساعدَ على غزارة إِنتاجي كتباً ومقالاتٍ وترجماتٍ، ولا يزال الوقت يركض وأَنا أَلهث وراءه كي أَلتقطَ منه هنيهاتٍ لبعضٍ من عمرٍ أَبحث عنه خارج الزمان.
لم أسمح لمن تنكر لي أن يقذف الحجارة بروحي بل غيبته قبل الاعتذار
السرعة القصوى
* ما أَكثر الذين يرتادون حياتنا كأَنها مصائف. يخلعون لدينا جلودهم، يتمرَّنون على قذف الحجارة في الروح ويرحلون من دون اعتذار. حينما تلتقي بالناس هل تجد فيهم إِنسانا حقيقياً؟ أَم توصد أَبواب الروح كي لا يزورك أَحد؟
– عرفتُ في حياتي بعض نُكران الآخرين. لكنني لم أُتِح لهم أَن يقذفوا حجارتهم في روحي بل غيَّبتُهم قبل أَن يبلغني منهم اعتذار. إِنّ بي طِيبةً عفويةً تجعلُني أَنتفضُ بسرعة، أَتحمَّسُ بسرعة، أَندفِعُ بسرعة، قبل أَن أَكتشف حقيقةَ مَن أَندفِعُ لأَجلهم، وغالباً ما صدمَني تصرّفُ بعضِهم عُقوقاً. مع ذلك لا أُوصِدُ أَبوابَ روحي. أَتركُها مفتوحةً لكلِّ نَقيٍّ يُصافِحُني حقيقيّاً في مودَّته والصداقة. غير أَنّ تلك المصافحات أُبقيها خارج الحميمية، لأَن داخلي العميق لا يعرفه – ولَن يعرفَهُ – إِلاّ مَن أُشارِكُها عُمري وتُشاركُني عُمرَها. لها وحدَها أَفتَحُ كلَّ روحي.
هناك ضفاف وهمية قفزت إليها ولم أندم.. فمازلت أنتظر الضفة الحقيقية
وفاء قلب
* في رسالتها الأَخيرة كتبَتْ إليه ( كلما أَغمضتَ عينيك وفتحتَهما ستجدني أَنتظركَ في نهاية الطريق. مُدَّ أَصابعكَ إِلى الأَمام وبَدِّدْ هذا الخوف، تجدني وفاءً لا يخطئُ طريقه إِلى القلب). حينما تغمض عينيكَ أُتحبُّ أَن تفتحهما لترى وفاءَ أَحدهم؟ وإِلى أَين تهرب حينما تحتاجُ إِلى مَن تبكي لديه أَو يُبكيك؟
– الوفاء؟ أَكادُ أَجعلُه اسميَ الآخر أَو عنوانَ قَلَمي. منذ مطالعي نَذَرْتُ الوفاء للأَصدقاء الحقيقيين، ولتراث بلادي وأَعلامِها وكِبارِها وكُلِّ مَن مَدَّ إِليَّ يوماً يَدَ الصّدق. طبعاً أُحبُّ أَن أَفتَح عينيّ دوماً لأَرى مَن يُقدِّر بي هذا الوفاء. سوى أَنني لم أَحتَجْ يوماً إِلى البكاء على كتِف أَحَد، ولا جعلتُ أَحداً يُبكيني صدمةً أَو خِذلاناً أَو ملامِح يأْس. ضنينٌ أَنا بدموعي، لا أَبوحُ بها إِلاّ حين تتقطَّر اعتذاراً على كفِّ حبيبتي. وحدَه الحُبّ يستاهلُ أَن أَستوطنه وأَن أَمنَحهُ وفائي ودموعي.
خلال ندوة عن كتاب “نقطة على الحرف”
الجحود
* ينصُبون الفخاخ لأَخطائنا. يعلِّقون المشانق ويُهيِّئون عُدّة التآمر. يُصغون إِلينا علَّنا نُخطئ. وحينما نسكت يَصرخون ضجراً من انعزالنا. هؤُلاء هم المتصيِّدون! كيف تتصرَّف مع مَن يتصيَّد أَخطاءَك؟ وأَيُّ الفخاخ التي نجوتَ منها؟
– عرفتُ في مسيرتي الأَدبية جُحوداً كثيراً ونُكراناً متكرراً. ولَم أُجِب يوماً أَحداً هاجمَني أَو انتقدَني بغير حقّ. طبيعتي أَن أُصافِحَ شاكراً مَن يُقدّرُني، وأَن أُشيحَ عَمَّن يَجحدُ أَو يَعُقُّ فلا أَجعلُه يشعر حتى أَنني شعرتُ بجحوده. طبعاً لي أَخطائي ولي خطاياي، سوى أَنني أُعالِجُها مع مُتصيِّديها بحكمةِ مَن يتعالى كِبَراً لا تَكَبُّراً. أَمّا الأَفخاخ فلا أَذكر أَنني وقعتُ في أَحدِها كي أَنجو منه. أَقول هذا عن حياتي الأَدبية. أَما حياتيَ الشخصية فلا أُشرِك بها أَحداً كي لا أَتعرّض لأَيّ صيدٍ أَو أَيِّ فخٍّ أَو أَيّ خديعة. رُبّما هذا ما يُنجّي حياتي الشخصية من التعرّضُ للزلازل.
الضفة الحقيقية
في لحظات دخوله إلى إحدى محاضراته
* متى شعرتَ بأَنك تردَّدتَ في القفز نحو الضفة الأُخرى وقلتَ لنفسك: لا تفعَلْها؟
– الضفّة الأُخرى مرناي الدائم. أَرنو إِليها منذ الطفولة وأَسعى إِليها منذ مطالع الشباب. وكُلّما بلغتُ خطوةً إِليها امتدَّت أَمامي خطَوات. لم أَتردّد يوماً في الإِقدام، ولو أنني مررتُ ببعض المراحل أَقدمْتُ فيها ثمّ ندِمْت. على الصعيد المهني كنتُ أَتمنّى أَلاّ أكونَ ارتبطتُ ببعض الالتزامات المهنية، غير أَنني لا أَندم. أَمّا على الصعيد الشخصي فثمّة ضفافٌ وَهِمْتُ أَنّها حقيقيّة، نَهَدتُ إِليها لهيفاً، وحينَ بلغْتُها واكتشفتُها عُدتُ عنها، أَيضاً وأَيضاً غيرَ نادم لأَنني كنتُ واثقاً أَنْ سيَجيء يومٌ أَبلغ فيه الضفّة الحقيقية.
الفقد المر
* كتب الياس خوري ( حين يموت مَن نحبُّه يموت شيء فينا. الحياة سلسلة طويلة من الموت. يموت الآخرون فتموت أَشياء في دواخلنا. يموت من نحبُّهم فتموت أَعضاء من أَجسادنا. الإِنسان لا ينتظر موته بل يعيش موت الآخرين داخلَه. حين يصل إِلى موته يكون بَتَرَ الكثير من أَحزانه ولم يبقَ منه إِلا القليل). أَيُّ الأَشياء ماتت فيك بعد أَن فقَدْت أَحداً تُحبه؟ أَتنتظر الموت؟ وما القليلُ الذي بقيَ منك؟
لحظات توقيع كتابه “سعيد عقل إن حكى”
– عرفتُ الفقدان مرّتَين، والحسّرةَ على الفقدان حسرتَين: الأُولى يومَ مات أَبي قبل أَن أَقول له إِنني أَحبَبْتُهُ كثيراً. لم أَقُلْها له على حياته طوال حياتي معه. وحُزني أَنْ يكونَ غاب ولم يعرِف أَنني أُحبّه مثلما كُنت أَودُّ أَن أَقولُ له إِنني أُحبّه. الحسرةُ الأُخرى يومَ غابَت أُمّي وهي تسأَلُ عنّي وتقول لِمَن حولَها إِنّها تريد أَن تسأَلَني أَمْراً لم أَعرفْهُ لأَنّها انطفأَتْ قبل أَن أَبلُغَ سريرها في المستشفى. يبقى لي منهما معاً حُبٌّ كثيرٌ مَنَحاني إِيّاهُ وأَخشى أَلاّ أَكونَ، على حياتهما، بادلتُهُما إِيّاه في ما يُشْعِرُهما بوفائي لهما. أَما أَن أَكون أَنتظر الموت، فأَنا كنتُ أَخشى أَن يداهمني قبل أَن أَعرف جنّة الحُب الحقيقية التي عشتُ عمري أَترقَّب أَن أَستاهل بلوغَها. ومنذ بلغتُها لم أَعُد أَخشى أَن ينطفئَ عمري لأَنني بالحُب أَضأْتُه حتى بعد انطفائِه.
مع والديه (رحمهما الله)
قدسية العناق
* نعانق الأَشخاص لأَننا نرغب في الاقتراب من دواخلهم أَكثر، أَو ربما لأَننا نحتاج أَن تتقاذف الأَجسام ثرثرةً أَبسط من التعقيد في دواخلنا. قد نعانق لأَننا نرغب في الاحتفاظ والبقاء. هل عانقتَ يوماً أَحدهم لأَنك قرَّرتَ أَن تغادره أَو تتخلّى عنه؟ ما العناق الذي أَبكاك يوماً ولا تنساه؟
– لم أَعرف عِناقاً أَبكاني لأَنني لم أُعانِق يوماً مَن قررتُ أَن أُغادره. حين أُقرر أَن أُغادر، أُديرُ وجهي وأَمضي ولا أُعانِق. أُقفِلُ عليَّ بالصمت فلا أُجادل ولا أَعودُ أَنظرُ خلفي أَو حولي. أَمضي في الطريق أَمامي إِلى محطّةٍ أُخرى، محطّةِ انتظار، محطّة الأَمل الآتي الذي لا بُدّ أَنْ يأْتي. للعناقِ عندي قُدسيّةٌ لا أُفرّطُ بها. لذا لا تضمُّ يداي إِلى صدري إِلاّ دفءَ الحنان الحامل إِليّ الحُبّ الحقيقيّ. ومنذ عرفتُهُ، أَخيراً، هذا الحبَّ الحقيقيّ، أَخذْتُ أَذوق لحظات الحنان بين هِلالَي العناق. العناق صِدْق، ولا صِدْقَ يوهَبُ إلا للحُب الحقيقيّ.
في إحدى أمسياته الشعرية
الغياب
* يقول علاء خالد:(بغيابك نقصت حجرة من حجرات البيت. أَصبح البيت مائلاً ناحيةَ الموت، كم سنة أَحتاج كي أُعدِّل الميزان، كي أَبني حجرة أَخرى من الذكريات). من الذي غاب عنكَ وشعرتَ بأَن حجرة في الروح نقصَت في داخلكَ؟ وبِمَ تملأُ فراغ هذا الغياب؟
– الغياب الأَقْسى الذي أَخشاهُ دوماً: مَغيبُ الحُبّ بعدَما أَشرَقَ علَيّ. أَمضيتُ عمري كلّه أَنتظره حتّى إِذا جاء أَعْلَنتُ: “لم أَعرف الخوف يوماً إِلاّ يومَ أَحببت”. هذا هو الخوف الذي يوجعُني فراغُه إِذا حصَل، وغيابُه إِذا جاء، ومغيبُه إِذا آن، لأَنّه سيحمل مع مغيبِه غِياب عُمري في عتمة انكسار لا ينير ظُلْمَتَها وظُلامتَها أَحدٌ بعد غياب مَن هي كلُّ الحُضور. ليس عندي في عُمريَ الباقي ما أَخافُ عليه إِلاّ غيابُ هذا الحبّ الذي يُعادلُ عمري.
على المنبر يلقي إحدى قصائده
ربيع الحب
* في مجموعتك “ربيع الصيف الهندي” تقول ( يَقُضّني العمر. تبدو لي براثنه. خوفي ليغدرني من سَقْط مرتفَعِ.. أَكاد أَغرق في خوفي وفي لججي تجتاحني. فابسُطي كفَّيكِ واندفعي ). هل شعرتَ يوماً بوجعٍ في الروح حينما تحسَّسْتَهُ اكتشفْتَ بأَنه “أَلمُ غَدْر”؟ وبِمَ تداوي آلام الخذلان وغدْرَ مَن وثِقْتَ بهم؟
– قلتُ لها: “أُبسطي كفّيكِ واندفعي” لأَنّ وصولَها في خريف عُمري حوَّلَ صيفيّ الهندي ربيعاً دائماً أَخافُ أَن أَخسَرهُ بعدما كنتُ دائماً أَخشى أَن أَسقط من مرتفَعٍ إلى هوّة اليأْس. لذا – وأَنا كُدتُ أَغرقُ في خوفي – تمسّكتُ بها إِنقاذاً لعمري من عتمة العمر أَدخُلُها ولا تنتهي إِلاّ بانتهائي. الوجع الوحيد الذي ذقتُه، وسأَفعل كلَّ ما بي كي لا أَذوقَه، هو هلَعي من فقدان رضى حبيبتي.
مع المطرب وديع الصافي
المواجهة في الحب
* كتب إِحسان عبدالقدوس:( الحب هو أَن تثور بسرعة وتهدأَ بسرعة وتغضبَ بسرعة وتفرحَ بسرعة وتقلقَ بسرعة وتطمئنّ بسرعة. الحب هو كل العواطف في لحظة واحدة).. هل التقيتَ بحبٍّ جعلكَ تعيش كل “السرعة” في لحظة واحدة؟ ما شكْل تلك اللحظة؟ وهل تملك قدرة المواجهة في الحبّ؟ أَو تفضِّل الهروب؟
-“الحبّ هو كل العواطف في لحظة واحدة”؟؟ صحيح، إِذا كان هو الحبّ الحقيقيّ وليس وَهْم الحبّ الذي نخترعه لنَدْرَأَ عنّا شيخوخة العمر وصحراء السنوات. نعم: بعد خيباتٍ متتاليةٍ من الأَوهام الافتراضية عرفتُ الحبّ الذي أَعيشُه كلَّ لحظةٍ بنعمة السعادة. ما شكْلُ لحظته؟ طمأْنينةُ أَنّ شمسي لن تغيب على حُرقة الانتظار. نعم أَملِكُ قدرةَ المواجهة في الحبّ لأَنني أُخْلصُ لهذا الحبّ إِخلاصاً تامّاً حقيقياً، ناذراً كُلَّ نبضةٍ من قلبي كي أَتكرّسَ له كما هو يُخْلِصُ لي.
في مكتبه مسترسلاً في الكتابة
مرة واحدة فقط
* هل يُمكن أَن نصاب ب”نوبة حب” بعدما نظن بأَن العمر لم يعُد فيه متَّسع حتى نخوض توقه وحنينه وجنونه؟ أَيهما أَشهى: الحبّ الذي يزورنا في الصغر؟ أَم الذي يطرق قلوبنا بعد أَن نكبر؟
– “نوبات الحبّ” أَو ما وهمتُ بأَنه كان الحبّ، عرفتُها. وكنتُ كلّ مرةٍ أَخرُج منها بنُدُوبٍ تُعلّمني أَلاّ أَعودَ إِلى الوهم ثانيةً. لا أُؤمن بِحُبٍّ يزورنا في الصّغَر أَو في الكبَر أَو في الشباب أَو في الكهولة. تمضي الحياة كلُّها ولا يعرف الإِنسان إِلاّ حبّاً حقيقياً واحداً. واحداً فقط يأْتي مرةً واحدة، نعيشُ له حياةً كاملة في انتظاره. أُميّزُ هنا بين ما يسمّيه الناس حباً وهو علاقة أَو نزوة أَو شهوة أَو رغبة، وبين الحبّ الحقيقيّ. النزوة تمضي، والشهوة والعلاقة والرغبة. الحبّ الحقيقيّ لا يأْتي، إِذا أَتى، إِلاّ مرةً إِحدى واحدةً وحيدة.
خلال توقيعه لكتابه “نزار قباني متناثراً كريش العصافير”
فيروز
* غنَّت فيروز: “حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتي، نطرتك بالصيف، نطرتك بالشتي، وعيونك الصيف وعيوني الشتي، وملقانا يا حبيبي خلف الصيف وخلف الشتي”. إِلى أَين يأْخذك صوت فيروز؟ وكيف طعْم الشتاء في صوتها وطعمُ الصيف؟
– فيروز تعني لي الوطن. لا بصوتِها المجرّد وحسب بل بما يحمله صوتها من نَصٍّ شِعريٍّ ولحنٍ عذب ورسائلَ إِنسانيةٍ إِلى كلِّ فصلٍ. في صوتِها تجتَمِع الفصول لأَنَّ صوتَها ليسَ مجرّدَ أَوتارٍ ولا تصويت ولا أَداء. صوتُها وطنٌ كاملٌ من الشعر والموسيقى والتَّوق إلى الجمال. حين أَقول إِنني أَكتفي بصوتها عن سائر الأَصوات المغنّية، أَقول إِنّني أَكتفي به يحملُ إِليَّ بهاء الوطن ونقاء الجمال. هو في الشتاء دِفؤُه، وفي الربيع بنفسجاتُهُ، وفي الخريف انتظاراتُه، وفي الصيف بيادرُه والجداول.
مع الشاعر سعيد عقل
رائحة الألوان
* نتعطّر بعطر زجاجة تلامس فينا كل شيء. نتعطر بروائح تسكننا ومعها نتسلق الجسور. نختار العطر الذي يقول عنا كل الحكايات، يبكي عنا، يضحك عنا، يحلم عنا، ينبش بنا تفاصيلنا حتى الذي يختفي في القلب.. هل تعيش مع حكايات الروائح؟ أَي عطر منحَكَ بالوناتٍ وزهوراً ومطَراً وعشّاً نمتَ فيه وحينما استفقتَ اكتشفتَ بأَنه كان عطرَ وَهْم؟
– الروائح عندي أَلْوان. لكلّ رائحةٍ لونٌ ولكلّ لونٍ عبير. لذلك عندما أَقرأُ لوحةً جميلةً لا أَتهجّأُ أَلوانها بقدْرما أَتذوّق عطور هذه الأَلْوان. لكلّ لونٍ حجمٌ وشكلٌ وبُعدٌ، وفي كلِّ لونٍ أَرى ملامح من جمال وأُحسُّ نبضاتٍ في الروح تنفُرُ من هذا اللون أَو تقتربُ من ذاك. أَتحاشى الأَسْوَد لأَنني منذ عرفتُ الحبّ الحقيقيّ خرجتُ إِلى الضوء وأَشحتُ عن العتمة. وأُحبُّ “الفوشيا” لأَنَّ له في قلبي لحظةً فتحَت لي أُفْقَ حياتيَ الجديدَ فلا أَذكر تلك اللحظة إِلاّ ويعبقُ في روحي عطر الفوشيا أَخذني، منذ تلك اللحظة، إِلى حقولٍ من الضوء والسعادة ما زلتُ أَعيشُ فيها، وأَنظرُ منها إِلى فجري الجديد يهلُّ عليّ جديداً كلّ صباح. لم أَعرف في حياتي وَهْم العطر وإِن أَكُن عرفتُ في بعض المراحل عطْراً من الوهْم حين كنتُ أُفيقُ منه يذهبُ عنّي ومعه يذهبُ وهمُهُ الكاذب.
فراشات المطر
* كيف طعمُ المطَر في روحك؟ حينما ينقر نوافذ غرفتك ويحمل إِليك عصافير مبتلَّة تحط على السور، ماذا تقول لك؟ وما الذي تتركه لها حين تغادر؟
– كان المطرُ عندي نافذةً على القلَق أَيام كنتُ أَعلو وأَهبِط بين تلّةٍ توهّمتُها قمّة حبّ ووادٍ أَرجعَتْني إِليه صخرةُ “سيزيف”. كان بي عاصفاً “سيزيف”. وكنتُ أُحسُّني “ديوجين” الباحث عن نور الحب في ضوء النهار. زمناً طويلاً تعاقب عليّ “سيزيف” و”ديوجين”. كلاهما تقاسمني وأَنا أَنتظر التفَلُّت منهما معاً. كنتُ موقناً أَنْ سيجيءُ يومٌ أَعرف فيه الحب الحقيقي فتبقى صخرتي على التلّة المنتظرة، وأَبلغُ النور الذي أَرتَقِبُهُ فيضيء حياتي نهاراتِها ولياليها. ومنذ بلغتُها، هذه التلّة الرائعة، وعرفتُ النورَ الأَبهى، صارَ للمطر في قلبي وروحي وشِعري معنىً آخَرُ: الخصوبة، خصوبةُ الديمة التي تُبلِّلُ الأَرضَ بالنّدى فيولَدُ الربيع وتتذهّب السنابل وفي عرس الحقول تتغاوى الفراشات. هذه هي حياتي اليوم. وهذا هو الفرح الأَكبر الذي يَمنحُنيهُ الحُبّ وأَعيشُ مَعناهُ في نُعمَاه. حين تَحُطُّ على شبّاكيَ العصافير أَروي لها شُعاعاتٍ من حُبّي لتنقلَها في مناقيدِها إِلى فضاءاتٍ أُخرى يحتاجُ مَن فيها إِلى نعمة الحُبّ، وأَروي منها شعاعاتٍ أُخرى للفراشات كي تَنقُلَ حافيةً نبضةَ الحُبّ من شَفةِ زهرةٍ إِلى شفةٍ أُخرى فتُصبح للقُبلة طهارةُ الروح وتستحقُّ قدسيةَ النعمة.
* ما هو السِّرُّ الذي لم تَقُلْهُ يوماً لأَحد؟
– في حياتي أَسرارٌ كثيرةٌ لم أَبُح بواحدٍ منها لأَحَد. لا لأَنّني لستُ أَثِقُ بأَحَد بل لأَنّ السرّ عندي لا يُباحُ به كي يظلَّ سراً فتَبقى له قُدسيّته المهيبة. في إِشاعةِ بعض الأَسرار أَذىً لأَصحابِها لا أَرضاهُ يكون. كُلّ هذا كان قبل أَن عرفتُ الحُبّ. ومنذ عرفتُه بات هو سِرّيَ الأَكبَر يَنْضحُ من شعري عطرُهُ فيضوع على قرّاء شعري صداهُ لا صوته. قداسة الحُبّ أَن يَضوعَ منه الصّدى لا الصوت. الصوت يبقى لي ولحبيبتي لا نُرسلُ منّا للآخرين سوى الصدى يُردّده فيَشيع في الناس. الصوت يحفظ السرّ فيبقى الحُب مُنزَّهاً. إِذا أُفشيَ الصوت خسِرَ الحبّ هويةَ قلبه النابض، وهذا يؤْذي الحبّ إِذا كان حقيقياً. السرُّ الذي لم أَقُلْهُ يوماً لأَحَد ولن أَقولَهُ، هو فجرُ اللحظة الذي أَشرق بها حُبّي فغيّرَ حياتي وجعلَ لي عمراً جديداً لن يعرِفَ دواخِلَهُ أَحَد. أَمّا ظواهِرُهُ ففي شِعري، ويا طيبَها باتت في قصائدي هي نبضة الشعر وهي اللحظة الشاعرة.