كان ذلك في لندن ذاتَ مساءٍ باردٍ من شتاء 1947 إِلى مائدة عشاء لدى الوزير المفوَّض كميل شمعون وزوجته زلفا بعد حضور مسرحية غنائية. فجأَةً يلتفت كميل شمعون إِلى “الستّ مَيّ”، ضيفتِه وزوجِها ابرهيم، ويقول: “إِذا وفّقَني الله ووصلتُ إِلى الحُكْم في لبنان سأُؤَسّس في هياكل بعلبك مهرجاناً يستضيف مسرحياتٍ كهذه المسرحية التي شاهدناها”.
في تلك الليلة اللندنية وُلِد الحُلم في بالِ مَن سيُصبح في ما بعد رئيس لبنان ويؤُسّس فعلاً، بعد عشر سنوات (1957) مهرجان بعلبك بمعاونة مَن كانت ضيفتَه ليلتَها وساهمَت في تأْسيس اللجنة التي سَتَتَرَأَّسُها ثلاثين سنة في ما بعد.
بهذه الحكاية المؤثِّرة، وهي إِحدى حَكايا لبنان الأُعجوبية عن الإِبداع اللبناني، طرّز المسرحيُّ الشاعر نبيل الأَظَنّ كتابه الجديد “ميّ عريضة: حُلْم بعلبك“، في أُسلوب سيناريُوِيٍّ ذي زمنَين: الزمن الحاضر برماديِّه القاتم، وزمن الخمسينات والستّينات بأَلوان بَهجتِه اللبنانية التي ولَّت اليوم بأَعلامها وأَعمالها وعلاماتها.
كتابٌ جميلٌ بالفرنسية من 160 صفحة حجماً وسطاً عن “منشورات المجلة الفينيقية”، ليس بيوغرافيا لـمَيّ عريضة بل مشاهدُ متتاليةٌ من عصرَين لبنانيَّين: حاضرٍ تعيشه اليوم ميّ عريضة في صمتٍ مُوَشّىً بحزنٍ وحسرة، وماضٍ يستعيده “فلاش باك” ساطعٌ بزخم بعلبكّاتٍ سنويةٍ ركَّزت لبنان وبعلبك على خارطة الدول الكبرى ذات المهرجانات العالـميّة.
تروي “الستّ مَيّ” مطالع المهرجان: نحن سنة 1957، إِيغور مُويـيـسِّـيـيـڤ في لبنان، تطلب إِليه اللبنانيةُ الأُولى زلفا شمعون تدريبَ مدرّبين على الرقص فكان مروان وبديعة جرار، ثم تطلب إِلى عاصي ومنصور الرحباني تحضيرَ مسرحيةٍ غنائية وقَّعَت لها فيروز على عَقْدٍ بليرةٍ لبنانيةٍ واحدة تخفيفاً لـمصاريف اللجنة فكانت “إِيّام الحصاد” لَيلتَين (31 آب و1 أَيلول 1957) بأَلحان الأَخَوَين رحباني وفيلمون وهبي وزكي ناصيف، وإِخراج صبري الشريف، وكوريغرافيا مروان ووديعة جرار، وتوفيق الباشا لقيادة الأُوركسترا، ومحمد شامل ومحيي الدين سلام للإِدارة، ودهشة الجمهور من عتمةٍ كاملةٍ على أَدراج هيكل جوﭘـيتر ثم شَعَّ نورٌ من أَسفل الأَعمدة أَطلَّت منه فيروز كما من فراغ الليل تُنْشد “لبنان… يا أَخضر حلُو عَ تلال”، وكان تصفيقٌ طويلٌ من جمهورٍ موشَّحٍ بدموع المشهد الرائع تَبِعَتْهُ أُغنية زكي ناصيف “طَلُّو حبابنا” ورقصة “هيك مشق الزعرورة” وغناء شابّ جديد من جون يدعى نصري شمس الدين.
وتوالَت بعدها إِلى هياكل بعلبك قممٌ خالدة من العالم: لويس آراغون، جان كوكتو، إِيلاّ فيتزجيرالد، ﭘـلاسيدو دومنغو، أُمّ كُلثُوم، فرَنْك سيناترا، هربرت ﭬـون كارايان، شارل مونش، ماتيسلاڤ روستروﭘـوﭬـيتش، موريس بيجار، إِيغور مويـيـسِّـيـيـڤ، مارغو فونتين، جان لوي بارو، جنــﭭـياڤ ﭘـاج، مادلين رينو، وكثيرون احتفَت بهم بعلبك ورحَّبَت بهم بيروت وَرَحُبَ بهم لبنان.
هكذا: من صفحةٍ إِلى صفحة، من مهرجانٍ إِلى مهرجان، من لجنةٍ إِلى لجنة، والرئيسة مَيّ عريضة تَروي ذكرياتِها في هذا الكتاب الجميل غيرِ الـمُقتصر على سيرتها بل من خلالها استعادَ المؤلف خارطةً نابضةً للبنانَ الوطن المبدع في أَزهى حقباته، خاتماً كتابَه بمجموعة صُوَر لــ”الستّ مَيّ” مع أَعلام عالَـميِّين من الملك فيصل إِلى عمر الشريف إِلى فرح ديـبا إِلى غريس أَميرة موناكو إِلى جاك شيراك إِلى كوفي أَنان، وسواهم مـمَّن تَدُلُّ مصافحتُهم إِياها على عالـميّة مهرجان بعلبك بفضل رئيسته الدينامية.
نبيل الأَظَنّ، في كتابه “مَيّ عريضة: حلم بعلبك“، لم يكتُب بـيوغرافيا أُفُقيّةً بل رسم سيناريو فيلمٍ يُنْسِي ما في الزمن اللبنانيّ الحاضر من ظُلمةٍ وظَلامٍ وظَلاميّةٍ وإِظلام، لتُطِلَّ ذاكرةُ لبنان الأَمس مَوسماً دائماً من الإِبداع والجمال.
هـنري زغـيب email@old.henrizoghaib.com