تَنشغل حالياً أَوساطُ العالَـم، سِياسيِّه وإِعلاميِّه، بظاهرة التنَصُّت تمارسها الإِدارة الأَميركية مركزياً وعَبْر سفاراتها في العالم، وتـمَسُّ خُصوصيات الزعماء الـمُتَنَصَّت عليهم والسياسيين وكبار الشخصيات الـمَعنـيّـة. وتنتفض دول كثيرةٌ ضدّ هذا الفعل الذي اعتبرَتْه مُـخالفاً مبدأَ الحرمات الشخصية، وليس فيه ما يُــبَــرِّئُ الإِدارةَ الأَميركية من أَنها قامت بعمل ممنوعٍ مُـحَرَّمٍ مستنكَرٍ أَخلاقياً وسياسياً.
هذه الحرب الجديدة تطلقها دولةٌ عظمى (كانت حتى الأَمس القريب القوةَ الأَقوى الوحيدة) سخَّرَت لأَجلها أَحدثَ التكنولوجيا تَطَوُّراً للدخول إِلى دواخل زعماء العالم، لا خصومِها والأَعداءِ الـمُتَربِّصين بل أَقرب الحلفاء الذين يقَفُون جنباً إِلى جنب مع الأُوباما ويُخَطِّطون معه لِـخَير العالم في قمة الثمانية وقمة العشرين. وإِذا كان الأَمر حثَّ الرئيس الفرنسي هولاند على طرحه في قمة الاتحاد الأُوروﭘـي فهو في أَلْـمانيا مع إِنجيلا ميركل استوجب اعتذاراً علَنياً من أُوباما الذي أَنكَرَ علْمَه بأَنّ التنَصُّت بلَغَ هاتفَ ميركل الشخصي.
هذا التجسُّس على الرؤَساء والقارّات شاءته الإِدارة الأَميركية تنَصُّتاً احترازياً، وهو أَيضاً يجعل وسائطَ التواصل الاجتماعي جميعَها في خدمة الأَميركا التي تمسك الكوكب كلَّه تحت سيطرتها وتالياً تُتيح لها التَّحَكُّم بما تشاء ومَن تشاء متى تشاء.
هي هذه أَهميةُ أَن تكون الداتا في الـمُتناوَل كي تتحكَّمَ السُّلطة، كلُّ سلطة، بـمُقدَّراتها فَتَحْتَرِزَ وتَسْتَبِقَ وتَحكُمَ وتُحاكِم.
هذه الداتا عندنا انحبسَت عن السلطة ذاتها وتمنَّع مالكوها عن تسليمها، فعجزَت الدولة عن كشْف جرائمَ واغتيالاتٍ كلَّفَت الدولة ولا تزال تكلِّفها حجماً نقدياً هائلاً يَذهَب من ميزانية الدولة إِلى مَحاكمَ دُوَليةٍ مُكْلِفَةٍ كي تكشِفَ لها مجرمين كان يمكن كشْفُهم بأَسهلَ وأَبسطَ وأَقلَّ كلفةً لو ان الداتا المتعلِّقة باتصالاتهم سُلِّمَت إِلى المراجع المعنيّة بكشْف هذه الجرائم القاصمة.
تلك الجهات الـمُمْتِنعَةُ عن تسليم الداتا، والـمُتَمَنِّعةُ من التعاون لـمصلحة الدولة، طالما لا تزال تتمنَّع وتمانع وتَترك الأَمر سائباً فتتحكَّم لـمصلحتها بهذا التسيُّب، لا أَملَ بأَن تتمكَّن الدولةُ من تمكين سلطتها، ولا من تطبيق عدالتها، ولا من جَنْي قضائها، ولا من بسْط نظامها، ولا من استخدام عقوباتها، ولا من فرض قانونها، ولا من تطبيق دستورها، ولا من استعادتها هيبتَها المفقودةَ يتطاول عليها أَصغر الرُّعاع في الشارع ويتناولها بالتقصير – ويا لسخرية القدَر !!!- مَن هُم في الحُكْم والسُّلْطة والحكومة والمجلس النيابي، كأَنّ الدولة ليست دولتَهم، كأَنّ البلد ليس بلدَهم، كأَنّ الوطن ليس وطنَهم، كأَنَّهم ليسوا هم بالذات مَن يُسْهِمون في تهديمه وتشويهه وتهجير أَبنائه وخلْع هيبتِه عنه في مُؤَامرةٍ كبرى هُمْ مُنَفِّذوها عمْداً أَو جهلاً، سذاجةً تبلغ حَد الغباء أَو عَمالةً اسمُها الآخَر خيانةٌ عظمى.
وبين أَن تَظهَرَ هَيْبَةُ الدولة في التَّنَصُّت على داتا القارات، وأَن تَسْقُطَ هَيْبَةُ الدولة في عجْزها عن بلوغ داتا المجرمين، يبقى لنا أَن ننتظرَ كثيراً حتى نصِلَ إِلى أَلِفْباء قيامة الدولة التي يُسْهِم في اغتيالها مَن الـمُفْتَرَضُ أَنهم أَركانُها في الحُكْم والحكومة والمسؤُولية.