يَشغَلُ الأَوساطَ الفرنسية هذه الأَيام كتابُ سيرج فِدِرْبُــش (Federbusch) يكشِف بالوقائع والأَرقام والتواريخ أَخطاءَ ومثالبَ أَتاها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند منذ تَوَلِّيه سُدَّة الرئاسة في 15 أَيار العام الماضي. وهو يدلُّ على ديمقراطيةِ حريةٍ في فرنسا تتيحُ الإِدلاء بالرأْي الحرّ والتعبير عن الأَفكار والحقائق من دون خشية التفجير أَو الخطف أَو الاغتيال.
عنوان الكتاب “L’enfumeur” أَي ذو خداعٍ ورياءٍ يَذُرُّ لا الرَّمادَ في العيون، كما القول السائر، بل يَذُرّ الدُّخان كي يُلهي الناس عن غرضه الأَساسي الـمُضْمَر.
في التفسير اللغوي الفرنسي أَن الدُّخانِـيّ مُـخادعٌ مُـخاتلٌ غشَّاشٌ يُسَوِّد بالدخان تَضليلاً وتـمويهاً. وتُستخدَم هذه الصفة لـمَن يَذرُّ الدُّخان في القفير ليُبْعِدَ النحلَ فيستأْثرَ بالعسل، أَو لِـمن يَذُرُّ الدخان لـحيوانٍ فيُعميه كي يصطادَه أَو يقتلَه، وتُستخدَمُ للسياسي الذي يُلْقي خُطَباً هَوائيةً يغشُّ فيها سامعيه.
أَتناول هذا الـمعنى السياسيَّ الأَخير لأُلْقيه على مَـجموعة سياسيين عندنا ليس في خُطَبِهم إِلاَّ التمويهُ والتضليلُ والتمنين والتخوين ودخانٌ يُعْمي فيُمَوِّهُ ويُضَلِّل.
يَـخرجون علينا في كلّ مناسبةٍ ليُدْلوا بتصاريحَ دونكيشوتيةٍ تُلهي الناس في مكانٍ، وعَينُهم على مكانٍ آخَر.
يتناولون أَيَّ مناسبةٍ سياسيةٍ أَو تأْبينيةٍ أَو دينيةٍ ليُطْلقوا خُطَباً وتصاريحَ عنتريةً ووُعوداً دُخانيةً مُـخدِّرَةً لا أَسانيدَ لها ولا وقائع، بل هي ذَرّاتُ دخانٍ تَضيع في الهواء وتَضيع معها كلّ صدقيّتهم.
وبينما في ديمقراطيات العالم تُحتَرَم حريةٌ للتعبير ترفض بالإِثباتات الدامغة وقائعَ وممارساتٍ وهوائيةَ خُطَبٍ ودُخانيّةَ تصاريح، يَبلينا بعض سياسيينا بِـخُطَبٍ وتصاريحَ ليس فيها سوى الشتائم والاتهامات والتبايُنات والتشويه والتشهير ببعضهم بعضاً.
وفيما الأَضداد والأَخصام في العالم الديمقراطي الحقيقي يَجتمعون، رُغم تنافر اصطفافاتهم، لإِنقاذِ البلاد من كارثةٍ آتيةٍ ماليّةٍ أَو اقتصاديةٍ أَو دستوريةٍ أَو استحقاقية، يَتَنَافَر عندنا السياسيون متّهِمٌ بعضُهم بعضاً بالتعطيل والتجميد عبْر خُطَبٍ طُبوليةٍ جوفاءَ تُبَرِّر حُجَجَهم وتُجرِّم حجج الفريق الآخر، وجميعُها نُفاياتٌ دُخانية تُعمي الوطن الـمُقبِلَ على استحقاقاتٍ دراماتيكية وليس مَن يَترُك متراسه كي يفَاوضَ أَو يناقشَ أَو يَـجِدَ حَــلاًّ قبل وُقوع الكارثة.
كُلٌّ يَخطُب من مِتراسِه. كُلٌّ يَذُرُّ الدُّخان من موقعِه. كلٌّ يَرفَع إِصبعَه مُهَدِّداً مُنَدِّداً بالويلِ والـمقاطعةِ والــ”وإِلاّ…”، ومع كلّ “وإِلاّ” يقترب الخطرُ أَكثر ويَخافُ الناس أَكثر ويُهاجرُ من لبنان أَكثر، وليس ما يردع الدُّخانيين عن ذَرّ سموم دخانهم في شرايين الوطن.
ديمقراطيةُ فرنسا – بِـحُريَّة إِطلاق الحقائق الدامغة في وجوه مُشوِّهيها الـمُتَمَتْرِسِين في معسكراتهم ومناصبِهم ومقاعدِهم – لو كانت عندنا لكانت التُّهَمُ ارتدَّت على أَصحابها فَجَرَّدتْهُم من أَقْنِعَتِهِم وأَعادَت الدُّخانَ إِلى صُدورهم كي يُعانوا ما يَفْعَلُه دخانُهم في صدور الشعب اللبناني.