دربٌ كأَنها إِلى اتجاه واحد
السبت 15 حزيران 2013
-798-
كأَنما قَدَرُهُ، هذا اللبنانُ اليوم، أَن يتملَّك منه شَرخٌ عَموديٌّ بين رئتيه، وآخرُ أُفُقيٌّ بين مفاصل كلٍّ من تَينِك الرئتَين.
كأَنما لا يكفيه ما ينقسم إِليه معظمُ شعبه اصطفافاً بَـبّغاوياً بين انتصارٍ لهذا الفريق ومعاداةِ ذاك، حتى تجيءَ مناسبةٌ يكون التعبير عنها تجديدَ ما يفضح الفارق مريراً في صفوف الشعب.
أَقول هذا وأَتمثّل أَمامي مشهدَين متناقضَين حضارياً وسُلُوكياً شاهدَين على ما في قلوب الناس ونفوسهم من فوارق دراماتيكية تُباعد بينهم فيسلكُ كلٌّ منهم درباً كأَنها إِلى اتجاه واحد بلا رُجعى.
مشهدان… كلاهما أَمام الموت.
المشهد الأَول – الذكرى الأُولى لغياب غسان تويني: جَـمْعٌ مثقّفٌ راقٍ يُصغي في صفاءٍ إِلى الأُوركسترا الفيلارمونية اللبنانية تؤدّي سمفونياتَين لـموزار وثالثة لبيتهوﭬـن، والحضور إِصغاءٌ رهيفٌ في استذكار مَن كانت الموسيقى رَحَابَتَه الأَوسع حين يَخْلُدُ إِلى ذاته بعد جولات القلم.
والمشهد نفسُهُ أَيضاً – الذكرى الثامنة لاستشهاد سمير قصير: جمعٌ مثقَّفٌ حاشد يتابع في صالة المسرح أَعمالَ مؤلِّف مسرحيٍّ لبنانيّ (وجدي معوض) في استذكار شَهيدٍ كاتبٍ شَهَرَ قلمَه عاصفةً أَطلقَت “ربيع بيروت” صرخَةً أُولى استلهَمَها للكلمة الحرة كلُّ ربيع لاحق.
المشهدُ الآخَر في المقابل: مواكبُ شبّان هائجين يحتفلون بنصرٍ تناهى إِليهم فخرجوا يستذكرون الموتى حاملين العصيّ والأَسلحة في الأَزقّة والشَّوارع، مُطْلقين الرصاصَ في الهواء، مُرعبين الأَهالي بِـشَهْرهم أَدوات النَّحر والانتحار.
مشهدان تحت سماء واحدة:
هنا يَستذكرون الموت بالفنون والآداب مُـحتفلين بالحياة ضدّ الموت صوناً كرامةَ الإِنسان والوطن، وهناك يَستذكرون الموت مُـحتفلين بإِطلاق الرصاص وشَهْر أَدوات القتْل الجاهليّ طعناً بالحياة وإِمعاناً بالموت المجاني العبثي.
هنا يحتفُون بالغياب في احتفالٍ بذكرى غائبٍ جعلَ الثقافة غذاءَ الحضور، وبذكرى غائبٍ آخَرَ أَيقظَ الربيع في نبضة الحرية، وهناك يحتفُون بالغياب في احتفالٍ يؤَدّي إِلى موتٍ أَكثرَ قُبُوراً.
هنا الاحتفاءُ بقلمٍ سقَطَت يَدُ صاحبه لكنّه لم يسقُط لأَنه مرصود على إِذْكاء الحياة، وهناك الاحتفاءُ بسلاحٍ سقطَت يَدُ صاحبه لكنه لم يسقط لأَنه مرصودٌ على إِذْكاء الموت بمزيدٍ من القتل والضحايا.
هنا الموتُ تتحدَّاه الحياة، وهناك الحياةُ يتهدَّدُها الموت.
هنا العقلُ يَنبُضُ بفجرٍ يتواصلُ شَـمساً حيّةً بعد شمس، وهناك الغريزةُ تَلوكُ غُرُوباً يتواصل ليلاً فاجعاً بعد ليلٍ فَجُوع.
قَدَرُهُ الأَقسى، هذا اللبنانُ اليوم، أَن يتملَّك من شعبه شَرخٌ عموديٌّ يفصمُ بين رئتيه كأَنهما خطّان متوازيان.
وما أَصعبَ أَن يختنقَ قلبُ الوطن حين رئـتاهُ خَطَّان متوازِيَان… لا يلتَقيان.