أَمامي كتُبُهُ الأَربعة: “كاريكاتور صادق” (1964)، “إِضحكْ مع ﭘـيار صادق على السياسيين” (1972)، “كلُّنا عَ الوطن” (1977)، و”بشير” (1983).
وفي الأَربعة الكُتُب، هُوَ هُوَ شكلاً ومضموناً: حدَّةٌ في بلاغة الصورة، إِيجازٌ في خطوطها، سيفٌ مُصْلتٌ في تعليقها.
وهي هذه رسالةُ ريشتِه منذ انطلقَت قبل نصف قرن: صَيحةُ الحقيقة مع بزوغ كلّ يوم.
متابعاتُه السياسية جعلَت قراءةَ صورته أَحياناً تتقدَّم على قراءة افتتاحية الجريدة، ولَسَعاتُه الكاريكاتورية جعلت المعنيّين يتمنَّون أَن يتناولَهم ولو بقَسوته اللاذعة. وكم كان يَستعيض بالرمز أَحياناً حين يُمنع من المباشَرَة فيرمز للسياسيّ بقرنفلة (صائب سلام)، أَو مبسَمِ سيجارة (سليمان فرنجيّة) أَو ثوبِ راهبٍ يسوعيّ (شارل حلو).
ومن دِقّته في الصورة إِلى دِقّته في التعليق بكلماتٍ ضئيلةٍ يُقَوِّلُها لصاحب الصورة أَو تقال له، يَختَصر موقفاً أَو حدَثاً أَو حادثةً، فيثيرُ بسمةَ القارئ أَو غضبَه أَو… حُزنَه حينَ الحدَثُ طالعٌ من مأْساة، كما يومَ رسَمَ فاجِعَتَـي اغتيال الرئيس بشير الجميل والرئيس رفيق الحريري. ولأَنه لم يكن ذا انتماءٍ سياسيّ، كان فوق جميع الانتماءات، لا تنجو جهةٌ سياسيةٌ من نقده الكاريكاتوريّ، ولا يبقى سياسيٌّ خارجَ ريشته الذكيّة الثاقبة.
هي ذي صُوَرُه تمرُّ أَمامي في هذه الكُتُب الأَربعة، فتَمُرُّ حِقْبَةُ نصف قرنٍ من تاريخ لبنان أَرَّخها هذا الخلاَّق المبتكِر بريشةٍ تَجْرَحُ ولا تُدمي، تُوجِعُ ولا تؤْذي، تَصرُخُ ولا تُضِرّ، تَغضَبُ ولا تُبْغض، تُوالي ولا تُحابي، تُعارِضُ ولا تُذِلّ، تَسخَرُ ولا تُهين، تَحزنُ ولا تتفجَّع، وفي أَكثر صُوَرِه سوداويةً ومأْساويةً بَقيَتْ مَساحةٌ للأَمَل وفُسحةٌ للرجاء، كما صُوَرُه طوال الحرب في لبنان: تَختنق بالدخان والفواجع والمآسي وتَبقى فيها نقطةُ ضوءٍ زاداً لآخِر النفَق.
كان مؤْمناً بقيامة لبنان، جلاّداً على الخطإِ والخطيئة والمخطئين والخاطئين، لأَنه كان ينادي باسم الحقيقة اللبنانية، يُنادي باسم كلّ لبناني حُرٍّ عالي الجبين يريد وطنَه أَن ينتصرَ على اليوضاسيين من جميع فئات الخيانة والخائنين.
بعد الصورة الجامدة في الجريدة، وهي لم تكن جامدةً إِلاَّ في الشَّكل لأَن مضمونَها يَغلي بالحياة، انتقلَ إِلى الصورة المتحرِّكة وابتكر الكاريكاتور التلـﭭـزيونيّ رائداً بهِ وسابقاً وسباقاً، فبات بلوغُ كاريكاتوره أَوسَعَ على الـمَواقع الإِلكترونية واليوتيوب.
هكذا ماشى عصره مرّتين: صورةٌ ثابتةٌ في الجريدة وكليپْ ثوانٍ على الشاشة، وفي الحالتين تنبُض صورتُه بالحياة والحرَكة والنقد الـمُوصِل إِلى باب الحقيقة. ويا ما اختصرَت صورتُه ما يَجُول في بال الشعب من أَفكار وانتقادٍ وغَضَب.
ﭘـيار صادق توقَّفَت يده عن معانقة الريشة، لكنّ ريشتَه باقيةٌ تعانِقُ تأْريخ لبنان الحديث في كلّ فصلٍ منه وكلّ فاصلة، فلا يُمكن الكلامُ على لبنان السياسيّ والاجتماعيّ والوطنيّ والثقافيّ بدُون الرجوع إِلى صورةٍ كاريكاتورية لشخصٍ أَو حَدَثٍ تَختصرُ في خطوطِها أَو تعليقِها سُطوراً طويلةً مطّاطة من كلماتٍ وتَحليلٍ وتعليقٍ وتنظيرٍ أَوجَزَها كُلَّها ﭘـيار صادق في بضعةٍ من خطوطٍ وبضْعٍ من كلمات، فانفجرَت معنىً بليغاً يخترقُ الذاكرة الفرديّة والجماعيّة لا إِلى نسيان.
أُغلِق كتُبَه الأَربعةَ أَمامي.
تبقى صُورةٌ واحدةٌ لم يرسُمْها بَعد: ريشتُه وحدَها على طاولته تنتظرُه يُمسكُها ليُنهي صورةً بدأَها ولم يُكمِل.
وأَوجعُ ما لا تَعرِفُه هذه الريشةُ أَنّ الصُّورةَ التي بَدأَها ستبقى يتيمةً بدون توقيعِه وبدون تلكَ الزهرةِ الـمَزْهُوَّةِ في أَسفل التوقيع.