“أَكثرُ ما ينقص لبنان: لا شبكةُ مياه، ولا شبكةُ طرقات، ولا شبكةُ كهرباء، بل شبكةُ مواطنين يَنذُرُون جهودهم للخير العام ويعملون معاً لِـحَلّ مسائلَ عالقةٍ أَبرزُها تحسينُ الوضع الاقتصادي وترقيةُ الإنسان. فإِذا لم ينشأْ تغييرٌ في عقلية النُّخَب اللبنانية الشابّة، وإِذا لم تَلفَح البلادَ ريحٌ جديدة تأْتي من ثورة ثقافية وخُلُقية، فسوف يكون النمُوُّ هشاً، ولن يكون للبنان أَن يحقِّق دورَه المحلّي في التماسُك الداخلي، ولا دورَه الوطنيّ الأَوسَع مركزاً للحضارة. إِنّ مبرّر وجودِ لبنان واستمرارِه مستوىً إِنسانِـيٌّ يخسر كل فاعليته إِذا تقزّم إِلى الفردانية الأَنانية الشخصية. ولن ينقذ روحَ لبنان وحضورَه إِلاّ العملُ الوطني الجماعي”.
بهذا المقطع البليغ الدلالة من تقرير رئيس بعثة “إِرفِد” الأَب لوبريه إلى وزارة التصميم اللبنانية سنة 1960 بعنوان “الإِنماء في لبنان: حاجات وإِمكانات” يَفتتح الدكتور أَنطوان مسرَّة كتابه الفرنسيّ الجديد “الثقافة المواطنية في مجتمع الطوائف – لبنان من نِظرة مقارَنة” بتوزيع المكتبة الشرقية أَصدره “تَـجَمُّعُ الصداقةِ اللبنانـيُّ للحوار المسيحي الإِسلامي” (تَصَالُـح) في 560 صفحة قَطْعاً كبيراً، من سبعةِ فصولٍ غنيةٍ بالوثائق والوقائع والاستشهادات ونصوصٍ هي في بعضها مقالاتٌ ومحاضراتٌ للمؤلِّف، وفي بعضها الآخر دراساتٌ كان أَشرف عليها أَو أَدارها في ندوات أَو مؤتمرات أَو لقاءات بـجمهورٍ منوّعٍ من المجتمع اللبناني المدني ما زال أَنطوان مسرَّة يتوجَّه إِليه منذ تأْسيسه “مرصدَ السلْم الأَهلي” انبثقت عنها “المؤسسة اللبنانية للسِلْم الأَهلي الدائم”.
يهدف الكتاب إلى التربية على المواطنية وثقافة المجتمع التعدُّدي وأَنّ المجتمعات المتعدِّدة الطوائف إِذا قاربَت المواطنية من منظار الدولة/الأُمّة وإِيديولوجياها قد تصطدم بعوائقَ غالباً ما تؤدّي إِلى اعتبار تلك المجتمعات تشَكُّلاتٍ اصطناعيةً موقَّتةً عارضة. من هنا يركّز الكتاب على سبعة عناصر تكوّن التربية على المواطنية وتستفيد من غنى التعدُّدية فتحُدّ من الارتدادات السيّـئة. والعناصر هي: المدى العام، الذاكرة الجماعية المشتركة، الاستقلالية، المواثيق، عدم تسييس الفروقات الثقافية والاجتماعية، ثقافة القاعدة الحقوقية، والحذر في العلاقات الخارجية. وفي فصول الكتاب معالجةُ أُمورٍ حيويةٍ راهنةٍ منها: تَطوُّرُ الديمقراطية وحقوق الإِنسان في لبنان، الحمايةُ الدولية لحقوق الإنسان، مبادئُ السيكولوجيا السياسية لدى اللبنانيين، هل للُّبناني العاديّ فكرٌ سياسي، المتخيَّل الجماعيّ لدى المواطن اللبناني المتوسط، مقاربةٌ جديدةٌ للهُويّة اللبنانية بكتابة تاريخ اللبنانيين، ثقافةُ المواثيق والشرعية، إِدارةُ التنوُّع، المواطنيةُ الإعلامية، مقاربةُ التنوُّع الديني، التربيةُ على ثقافة السلام، الفكرُ السياسيّ في لبنان خلال القرن العشرين: رفضُ الإِيديولوجيات والبحثُ عن الأَصالة، التعدديةُ المدرسيةُ إِلى أَين، حريةُ الصحافيين والمواطنيةُ الإعلامية، الفرقُ بين الإِعلام والاستعلام والاستيعاب، المرصدُ العربي لوسائل الصّحافة والإعلام، الفرنكوفونيا الإِعلامية في لبنان تراثُ روّاد، إِدارةُ التغيير في النظام السياسي اللبناني، هل الشارعُ اللبناني مدرسةٌ مفيدةٌ للمواطنية، لبنانُ مريضٌ بالتسييس، الثقافةُ السياسية في سويسرا كيف يتعلَّم منها لبنان.
وفي الكتاب استشهاداتٌ بليغةٌ بالغةُ الدلالة، منها عبارةُ الإمام موسى الصدر: “السِلْم في لبنان أَفضلُ أَشكال الحرب ضد إِسرائيل”، وعبارة البابا يوحنا بولس الثاني: “رسالةُ السينودس أَن يؤكِّد على أَهمية الوحدة باحترام التنوُّع”، وهذه العبارة للفيلسوف الأَميركي جورج سانتايانا: “مَن لا يُـمكنهم تَذَكُّرُ الماضي مَـحكومون دائماً بتكرار أَخطائه”.
كتابُ أَنطوان مسرّة “الثقافة المواطنية في مجتمع الطوائف – لبنان من نِظرة مقارَنة” صوتٌ ينبِّهُ على الخلل، يُضيءُ على سلامة الطريق، ويستلُّ من شوائب الماضي ما يَجعلُ الحاضرَ مسافةً آمنةً إِلى فجر المستقبل.
La culture citoyenne dans une société multicommunautaire – Le Liban en perspective comparée