حرف من كتاب- الحلقة 108
“لمحات من الحياة في متصرفية جبل لبنان”- الدكتور رياض حسين غنام
الأَحـد 17 آذار 2013

“… عند فقدان الوثائق الأَساسية تصبح المذكِّرات، خُصوصاً مذكِّرات القادة السياسيين والعسكريين والدﭘـلوماسيين والرحَّالة والتجار وكبار الموظّفين، نـموذجاً واضحاً، وربما وحيداً، لتسجيل الواقع كما هو، وإِبراز وصفٍ دقيقٍ للحياة السياسية والاجتماعية على اختلاف أَشكالها وأَنواعها ودقائق تفاصيلها…”.
بهذا المفهوم المنهجي الأَكاديمي أَعاد الدكتور رياض حسين غنّام نشْرَ مذكرات جرجس صفا نعمة فَحَقَّقَها ووضع فهارسَها وقدَّم لها وأَصدرها قبل أَيامٍ في كتابٍ عن “دار معن” بعنوان “لـمحاتٌ من الحياة العامة في متصرفية جبل لبنان” حجماً كبيراً في 366 صفحة مزودةً بصُوَرٍ ووثائقَ ومخطوطاتٍ تُغْني النَّصَّ الـمُفهرس الـمَشروح.
هذه النصوص ظهَرَت أَوّلاً في مجلة “الحياة النيابية” (الصادرة عن رئاسة مجلس النواب) مذكِّراتٍ لابن دير القمر القاضي جرجس صفا نعمة (1850-1933)، شهادةً مباشرةً من أَحد أَركان القضاء في عهد المتصرفية. وهو لم يبالِ في مذكِّراته بالبلاغة والصياغة والأُسلوب بل دَوَّنَ لَـمحاتٍ عن تَصَرُّف المتصرِّفين مع العامة والخاصة، بطيبةٍ مرةً وبقسوةٍ مرات، عن مشاربهم وأَهوائهم ومكامن القوَّة والضعف لديهم، عن أَخلاقهم وحالاتهم النفسية وسلوكهم في فترات الضيق والأَزمات، عن مباذل المتصرّفين ومعاونيهم وتأْثيرِ القناصل والمترجمين على الحكَّام، ومراعاة خواطر رجال الدين ومداخلاتهم وتَدَخُّلاتهم ونفوذِهم في إِصدار الأَحكام، ولُـمَحٍ من القضايا الكبرى فترتئذٍ كقضية الأَرمن وموقف السلطة منها، وعن إِعدام جمال باشا أَحرارَ لبنان، وعلاقة رستم باشا بمدحت باشا وملابسات إِعدام مدحت باشا ومسأَلة عصمة البابا. وفي المذكرات لُـمَحٌ عن حياةِ الجبليّين وعاداتِهم وتقاليدِهم وطبقاتِهم الاجتماعية وحرْصِهم عليها، وعن مرتَّبات موظَّفي الإِدارة وأَسعارِ بعض الحاجيات أَيامئذِ وأَهَمِّ مآكل السكان وحلوياتهم، وخصوصاً أَهل دير القمر، وتفاصيلَ عن نفي المطران بستاني، ومواقفِ المطران الدّبس، وسياسة رستم باشا رجلِ الدولة محورِ جُلّ صفحات الكتاب لأَن القاضي صاحب المذكِّرات رأَى فيه الحاكم الأَمثل على جبل لبنان.
هذه المذكِّرات حقَّقها رياض غنَّام أَكاديمياً، ووضَع في نهاية الكتاب ملاحقَ خاصةً بسِيَر الـمتصرِّفين المذكورين في النصوص، وفهرساً بأَسماء الأَعلام والأَماكن الواردة في متن النص الأَساسي، وتعريفاً مسْهَباً بصاحب الـمذكِّرات يُظهِرُ شخصيته وتَـمَرُّسَه بالحياة السياسية والقضائية وعمقَ ثقافته ووعيِه الاجتماعي والإِنساني حتى بلغَ أَن يكونَ أَحدَ أَهمّ النافذين في متصرفية جبل لبنان.
الكتاب من ثلاثة أَقسام: أَولُّ للحياة العامة في ذاك العهد، من مجيء رستم باشا إلى عهد داود باشا والقضاء على عهده، إلى المآكل في دير القمر، فالنفوذِ القنصلي وطمعِ الموارنة بحُكْم المتصرفية، إلى تهافت الجبليين على نيل أَلقاب “الشيخ” و”الـمقدَّم” و”الأَمير”، والقسْم الثاني لبعض مأْموري المتصرفية منذ داود باشا حتى حرب 1914، وصفحاتٍ من فترة رستم باشا وُصولاً إلى فترة فرنكو باشا وأَزمة البطريرك حسُّون على طائفة الأَرمن الكاثوليك، وبقي للقسم الثالث ثَبْتٌ بِـمَلاحق الكتاب الأَحد عشر.
كتاب “لـمحات من الحياة العامة في متصرفية جبل لبنان” سِجِلٌّ جليٌّ لفترة المتصرفية كاملةً قَلَّ أَن نجدَ عنها مصادر أُخرى بهذا الوضوح المباشر بِـمَعلوماتها عن الحياة السياسية لذاك المجتمع الجبليّ ومظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية فيه، ما يَجعل كتاب الباحث الـمُدَقِّـق الدكتور رياض غنّام مرجِعاً أَكاديمياً للباحثين والدارسين ومرجِعاً ثقافياً للقرَّاء، وهو للمرجعيَّتين سِفْرٌ لبنانِـيٌّ مُوَثَّقٌ أَضاف إِلى المكتبة اللبنانية ضوءاً على حقْبةٍ من تاريخ لبنان كانت منعطفاً عُضْوياً لـما جاء بعدَها من حرب عالَميةٍ أُولى نقلَت لبنان بعدها من سلطنةٍ عثمانيةٍ إلى انتدابٍ فرنسيٍّ مهَّدَت خاتِـمتُه لاستقلال لبنان.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*