“أُتْرُكْ كُلَّ شَيْءٍ… وَاتبَعْني”
السبت 2 آذار 2013
-783-
حين انزاحَت قَدَماه عن أَرض بازيليك القديس بطرس انزاحَ نصْف حِـمْله. وحين علَت به الـمِرْوَحيّة عن أَرض الـﭭـاتيكان حاملةً إياه إلى كاستل غوندولفو انزاح عنه النصف الآخر.
إلى منآه وصل تاركاً خلفه 7 سنوات من ملابسَ حبريةٍ فخمةٍ ليرتدي ثوبَ كهنوتٍ بسيطاً ويدخلَ مَـحبَسةً ضئيلةً يتصَومَع فيها منصرفاً إلى الصلاة.
لم يُرغمْه أَحد على المغادرة أَو على تَنَحّيه عن قيادة أَكثر من مليار ونصف مليار كاثوليكي في العالم، ولا أَطاحتْهُ ثورةٌ ولا تظاهرات ولا اعتصامات.
قال لإِخوته الكرادلة: “سامِـحوني على تقصيرٍ إِن بدا، أَو تصرُّفٍ إِذا أَساء”. وارتفع عالياً إلى تواضُعِهِ المطلق، وفي ضميره، وهو يُعلن استقالتَه، يتردَّد صوتُ مسيحه يقول لبطرس: “أُترُكْ كُلَّ شَيْءٍ واتبَعْني”. وَتَبِعَهُ بطرس فجعلَه صخرةً بنى عليها بيعَتَه التي آلت بعد 2013 سنة إلى بِنِدِكْتُوس السادس عشر فأَشاح عنها مُلبّياً وصيّةَ معلّمه “مَـجّاناً أَخذْتُم مَـجّاناً أَعطُوا”، ولبِسَ الإِسكيم تاركاً “لقيصرَ ما لقيصَر”، ومعتنقاً “ما لله”، منصرفاً إلى التأَمُّل والتَّعَبُّد، يفتح كتابَ صلاةٍ ويُغلق صفحاتٍ مريرةً من ولايةٍ سُباعيةٍ تضرّجَت بِـمشاكلَ دينيةٍ وسياسيةٍ ودنيويةٍ تتطلّبُ طاقةً جسدية لـمُتابعتها: جراحٌ في جسد الكنيسة مـمَّن جَرَفتْهم شهوةُ الجسد بطبيعتها وشُذوذها، معالجةُ “الـخُبْث الدينيّ” وتَـجاوُزاته، بهرجاتٌ مَظْهريةٌ وفضائحُ مُـخجلةٌ حتى من أَهل البيت الأَقربين، أُبَّــهاتٌ مُلوكيةٌ باسم الطقوس الكنسية، أَحدثُها “رولِكْس” متروﭘـوليت ﭘـلوﭬـديڤ (بلغاريا) باعها لدفع فاتورة كهرباء الكنيسة وأَثار استهجان المؤمنين من هذا التَرَف الكهنوتي الباذخ.
هذا الذاهبُ اليوم إلى خَلْوَة الصلاة، يترُكُ فينا أُمثولةً صاعقةً في بساطتها، ووصيّةً قاسيةً في تطبيقها تُعيدُنا إِلى أَسلافٍ له تاريخيِّين: إِشاحة اغناطيوس الأَنطاكي (سنة 110) وهو ذاهبٌ إلى مُلاقاة “النور النقيّ”، يوحنا فم الذهب (سنة 407) وهو ذاهبٌ إلى المنفى غيرَ خائفٍ من الفقر والموت، شربل حبيس عنّايا (1898) وهو يصلّي على طبق القصب مَـخطوفاً إلى العزَّة الإِلهية.
هذا الراهبُ اليوم، الداخلُ إلى نقاءِ الروح، يَتركُ للتاريخ ولـجميع حُكَّام العالم، عظةً غيرَ مكتوبةٍ وهو يَـخرُجُ من مباهج المناصب العليا والسلطات العليا والبهرجات العليا ويدخل إِلى مباهج الـحُبَساء والقدّيسين، إِلى الانخطاف الكامل للعبادة، ولا عبادةَ كاملةً بدون انصرافٍ كاملٍ هو جوهرُ الحبّ الحقيقيّ الذي لا تُنْعِمُ به الحياةُ إلا على مَن يستاهلونها من الصادقين.
هذا الزاهدُ اليومَ بِــزوائل الدنيا اختارَ أَن يَصعد إلى أَبيه عند قمّة الجبل.
لكنّه، قبل أَن يبْلُغها، بَلَغَ قمّةَ ضميره النقيّ.