تتقدَّم بيروت في تطوُّر العصر، وتتقادم في عراقتها عروسَ كلّ عَصر. وهي منذ حسرَت عن كنوز صدرها العائدةِ إلى القرون الأَقدم في التاريخ، تواصل بهاءَها الجديد من دون أَن تُغرِقَ في النسيان إِرثَها الطالع من ذلك التاريخ. وهذا عائدٌ إلى الأَوفياء من أَبنائها البيارتة يظلُّون يستذْكِرون ويَذْكُرون ويُذكِّرون ويتذَكَّرون حتى تظلَّ بيروتُ الأَمس حاضرةً في ذاكرة المستقبل.
من هؤلاء الأَوفياء عبدالرحمن بكداش العدُوْ في كتابه “بيروتي… خلال ثُلثَي قَرن”، صدر عن منشورات “دار المقاصد الإسلامية” طبعةً ثانيةً سنة 1992 في 224 صفحة قطعاً كبيراً، ومقدّمة من نائب بيروت جميل كبّي، وسبعة فصولٍ سجَّلَ فيها المؤلِّف مشاهداتِه الشخصيةَ عن بيروت تلك الأَيام، منذ أَواخر العهد العثماني حتى معايَشَتِهِ تقاليدَ العاصمة ومعالِـمَها وأَهاليها وحكاياتِهم وعاداتِهم. ولا يدّعي المؤلِّف دأْباً على الأَدب. فَهَمُّه إِيصالُ بيروت، بيروتِـــهِ، كما عايَنَها. وها هو يعترف: “سجّلتُ في هذا الكتاب ما وَعَتْهُ ذاكرتي، أَرويه كما عايشتُهُ وشاهدتُهُ، وأُدَوِّنُهُ بطريقتي الطبيعية البسيطة المبسّطة، وأُفصِح عما أَبغيه بطريقتي الفطرية، وأُصوّره للقارئ، كما هو، بدون زيادة ولا نقصان”.
بهذه العفوية يصحبُنا المؤَلِّف، وهو وُلِد مع الحرب العالمية الأُولى في بيت متواضع على السُّور في قلب بيروت، ودرَس في مدرسة المقاصد الخيرية الإسلامية أَيام مديرها عزيز مُومْنِة وبعده عبدالله المشنوق، وكان بين رفاقه فيها محمد شامل. وأَمضى حياته كلَّها في بيروت، عضوَ المجلس الإسلامي، فعضوَ حزب النداء القومي، فرئيس جمعية اتحاد القصّابين، وفي تلك المراحل جميعِها عاش بيروتَ الشعبية، في منطقة السُّور، جنوباً حتى مدافن الباشورة، وشرقاً وغرباً حتى ساحة البرج المرصوفة حجارةً مربَّعة سوداءَ تَدْرُجُ عليها عرباتُ الخيل والطنابر العتيقة.
ويصف الكتاب محلة الدّركة (صارت لاحقاً شارع المعرض) وكان فيها جدوَل جارٍ وحمام تركي وحوانيت قديمة. ويتبسّط المؤَلّف بوصف شاطئ بيروت ومتنزّهاتها وخصوصاً منطقة الزيتونة وحمَّامات الحاج داود وحمَّام عجرم وحمَّام عين المريسة، ثم مصايف بيروت القديمة: عرزالاً على رمل الأُوزاعي أَو بيتاً في رأْس بيروت أَو شوران أَو الروشة، فيما يقصُد أَغنياء البيارتة عاليه أو بحمدون.
ويتذكَّر المؤَلِّف مقاهي بيروت القديمة، ومسرح “رويال” وحفلات منيرة المهدية، ومسرح “الكريستال” وحفلات كشكش بك أَمين عطالله وفرقة جورج أبيض، و”التياترو الكبير” ومسرحيات يوسف وهبي وحفلات أُم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.
ويسرُدُ المؤَلِّف مجاعة بيروت أَواخر العهد التركي، وخيرات الإنكليز منافسي الفرنسيين، والتاكسيات الأُولى في شوارع بيروت، وبناء المسلخ سنة 1960، وقصصاً من سوق اللحم وسوق الخضر، وذكرياتٍ مدرسيةً مقاصديةً، وأُخرى سياسيةً مع عبدالله اليافي وصائب سلام وفؤاد شهاب وتقي الدين الصلح وشفيق الوزان والمفتي توفيق خالد وذكرياتٍ إِنسانيةً مع الدكتورة سنيَّة حَبُّوب أَوّل طبيبة سُنِّيَّة في لبنان.
وختام الكتاب لبيروتيّات طريفة: كالطبّ بالطلاسم، وتخديرِ الأَطفال بِعَصير الخشخاش، والتعامُلِ بالشوارب، وكَدُّوشةِ الزعتر، وعصا الفلَق، وسواها من الأَخبار الطريفة والذكريات الظريفة عن بيروت تلك الأَيام اللطيفة.
كتاب عبدالرحمن بكداش العَدُوْ “بيروتي… خلال ثُلْثَي قرن” ذاكرةٌ بيروتيةٌ عفويةٌ بسيطةٌ تَسرُد نبض بيروت الذي نحتاج اليوم اختزانَــهُ، كي تظَلَّ بيروتُ الأَمس حصانةً متينةً لِـجمال بيروت العصر، وهي باتت اليوم، بكلّ فخر، تُنافسُ أَيَّة عاصمةٍ حديثةٍ كُبرى تُـخَاصِرُ القرن الحادي والعشرين.