“ليست هذه الصفحات سيرةَ حياةٍ، وإِن كانت بعضاً منها. ولا هي تطمحُ أَن تكون تأْريخاً للصحافة في لبنان، وإن كانت تصُبّ في سياقها العامّ. هي بعضُ حكايةِ فتىً لم يملك أَن يختار قَدَرَه، لكنه تجاوز امتحان الجدارة وهو في قلب زنزانةٍ أَدخله إليها زُورٌ سياسيٌّ وتزويرُ قضاءٍ خاضعٍ لسلطة لا تُسائِل. إنها خطواتٌ على طريق الصحافة حين الصحافةُ شهادةٌ للوطن بقَدْرِما هي شهادةٌ على نظامه الفاسد المفْسِد”.
بهذا الاستهلال الضميريّ افتتح طلال سلمان كتابه الجديد “كتابةٌ على جدار الصحافة”، صادراً في سلسلة “كتاب السفير” عن دار الفارابي في 264 صفحةً قطعاً وسطاً حاملاً 26 فصلاً من يومياتِ صحافـيٍّ جاء ابنَ دركيٍّ شمسطاريٍّ من بقاع لبنان ليصبح أَباً لجريدةٍ هي اليوم بين كبريات الصحف في بقاع العالم العربي.
بأُسلوبه الأَدبي الْــكانَ يبلُغنا من قلم “نسمة” صباحَ كلّ جمعة في “السفير الثقافي”، رسم طلال سلمان أُوتوبيوغرافيا جليَّةً تتناهى منها مراراتُ المهنة وعُذوبتُها، وتَـمُرّ في ثناياها أَحداثٌ غيَّرَت في تاريخ الوطن، بعضُها له وبعضها عليه، حتى لهي لوحةٌ انطباعيةٌ، رومانسيةٌ في وجهٍ منها، وسورياليةٌ عجيبة في منعطفاتها الأُخرى، طيلة سنواتٍ من التحوُّلات والمتغيرات والحوادث.
إنه “الفتى”، يرافقُنا على مساحة الصفحات في الكتاب، وعلى طول مسافاتٍ يقطعها منذ اعترافه بأَنه لم يَتَلَقَّ من العِلْم في مدارس بيروت إلاّ قليلاً، لكنه قَبَسَ من روح بيروت كثيراً هو مصدرُ ثروته واعتزازه.
من تَدَرُّبه البدائي في جريدة “الشرق”، إلى مجلّة “الحوادث” فـمجلّة “الأَحد” فـمجلّة “الصيّاد” إلى مملكته في “السفير”، عَـبَـرَ الفتى جُسُوراً وأَنفاقاً منذ نومه على فراشٍ عتيقٍ في صالون بيتٍ متواضعٍ وسريرٍ مستعار، حتى انتقالِه من بيت إلى بيت، ومن سجن إلى سجن، في “ساغا” فرديةٍ تَـحَمَّل طاقتَها “الفتى” لإيمانه أَنه لا بُــدَّ واصلٌ يوماً إلى قطف النجاح من مرارة التشرُّد إلى عذوبة الشُّرود في وطن الصحافة الساطعة.
بهذه السلاسة السردية السائغة عباراتٍ ومعاني، جال طلال سلمان على أَيامه الخوالي متدرِّجاً من مُصَحِّح ﭘـروفات في المطبعة، إلى سكرتير تحرير “الحوادث” براتب مئتين وخمسين ليرة وهو بعدُ في العشرين من سنيِّه الزَّغْبة في العمل الصحافي، مُزاملاً مُنَح الصلح وشفيق الحوت ونبيل خوري وهَيْبة سليم اللوزي، إلى مجلة “الأَحد” يوم استدعاه رياض طه يسلِّمه مسؤوليةً لم يستطع أَن يعتذر عنها آتيةً من ابن منطقته البقاعية الهرمل، براتب قفزَ إلى خمسمئة ليرة دفعةً واحدة، إلى تعرُّفه بشابٍّ جاء من مشتى الحلو في سوريا حاملاً قصيدةً أَدخلتْه إلى أُسرة “الأَحد” مُـحرِّر الشؤون الثقافية فيها، قبل أَن يترك الثقافة والأَدب إلى التعليق السياسي ويصبح اسمه لامعاً ويدعى رفيق خوري. ومن ذكرياته في “الأَحد” إِنشاءُ مسابقة للقصة القصيرة فاز بها اسمان كانا مغمورَين يومها: صبية اسمها غادة السمان، وشابٌّ خجول اسمه زكريا تامر، سيصبحان لاحقاً من أَكثر الأَسماء سُطوعاً في الأَدب العربي الحديث.
وبين أَيام “الفتى” في المجلّة والسجْن والقاووش والـمَحْكمة والـمُحَاكمات، وانتقاله إلى الكويت مسؤولاً عن مَـجلّةٍ شقيقةٍ لـ”الرأْي العام”، فالعودةِ بعدها إلى بيروت في إِدارة تَـحرير “الصيَّاد” قبل أَن يؤسِّس في “السفير” مَـملكتَه الخاصة، تتهادى صفحات هذا الكتاب مَلامحَ طيِّبةً مَلأَها طلال سلمان ذكرياتٍ وحنيناً بقلم الصحافـيِّ ونبْضِ الأَديب، وكلاهما لديه ساطعٌ شفيف.
“كتابة على جدار الصحافة” سيرةُ اعترافٍ ذاتيةٌ باحَ بها قلبٌ أَذاقته المهنةُ عذاباً جميلاً.
وَرُبَّ كتابةٍ من القلْب مَـحفورةٍ على جدار، تَبقى في البال وتَنتقلُ الى ذاكرة المستقبل مُتَخَطِّيةً كُلَّ جدار.