بعد حلقاتٍ سابقة عن الرئيسَين: الأَسبق اللواء فؤاد شهاب والحالي العماد ميشال سليمان، نطلّ اليوم على كتاب جوزف شامي “عهد أَمين الجميّل”، الصادر بالفرنسية في 300 صفحة حجماً موسوعياً، جزءاً ثامناً من موسوعة المؤلف “مذكرات لبنان”.
يتميّز الكتاب بِغنى مضمونه وأَناقة إِخراجه ووفرة الوثائق فيه صُوَراً وتقاريرَ وإِحصاءاتٍ وجداولَ وهوامشَ ومقتطفاتٍ واستشهاداتٍ وأَقوالاً أَغْنَتْه جميعُها سِفْراً تأْريخياً رصيناً لِـحِقْبةٍ لاهبةٍ من تاريخ لبنان الحديث.
قلتُ “الحِقْبة” وأَراها في الكتاب متابَعَةً دقيقةً وَتَسَلْسُلاً كرونولوجياً مفصَّلاً منذ انتخاب الرئيس الجميّل وقسَمِه اليمينَ في 23 أيلول 1982 حتى توقيعه على تسليم الحُكْم إلى حكومة عسكرية قبل دقائقَ قليلةٍ من منتصف ليل 22/23 أَيلول 1988.
يستهلّ المؤلف كتابه بما واجه الرئيس الجميل في فجر عهده من مصاعبَ جمةٍ على رأْسها توحيدُ العاصمة، تسييرُ المؤسسات الرسمية، إِعادةُ النبض إلى الحكْم، الإِبقاءُ على ميزة لبنان وطن الحق بالاختلاف الديمقراطي، ومعالجة السلاح لـجيوش ثلاثة على أَرض لبنان: الإسرائيلي السوري والفلسطيني.
من هنا تَدَرَّج المؤلّف كرونولوجياً في السنوات الرئاسية الستّ، سنةً بعد سنة، وضمن صفحات السنة الواحدة تَدَرُّجٌ أُسبوعيٌّ للأَحداث، وأَحياناً روزنامةٌ يوميةٌ سَجَّلَت في دقةٍ وتفصيلٍ حدَثَ كلّ يوم باجتماعاته وأَحداثه وحوادثه وما أَكثرها معاركَ واغتيالاتٍ ومفاوضاتٍ وموفَدين وانتهاكاتٍ جعلَت جميعُها قصرَ بعبدا قمَّةَ جلجلةٍ أَكثرَ منها مقرَّ رئاسة.
وهكذا، من حكومةٍ إلى حكومة، ومن مرسومٍ إلى مرسوم، ومن تغطياتٍ صحافيةٍ لـمُجريات الأَحداث والوقائع، غَنِيَتْ صفحاتُ الكتاب بنوافذَ جانبيةٍ ومقاطعَ صغيرةٍ ضمن أُطرٍ لأَخبار تفصيلية موجَزة، وتعدادات بالأَرقام والوقائع، ما كَسَر رتابةَ النصّ الطويل في الصفحة العريضة، وجزَّأَها مقاطعَ مُهَنْدَسَةً مربّعاتٍ ومستطيلاتٍ بعضُها باللون وبعضُها الآخر بالأَسود والأَبيض، حتى لتغدو الصفحةُ خارطةً نَصّيةً جميلةً متعددةَ الـمواقع والأَنباء، جاءتها الصوَرُ فوتوغرافْيَا صامتةً أَبلغَ أَحياناً كثيرةً من فصاحةِ نصٍّ وشرحِ مقاطع.
وبين شوارعَ مهدَّمةٍ متهاوية، ولقاءات الرئيس مع رؤَساء وملوك، وطاولاتِ مفاوضاتٍ هنا وثَـمَّ من أَجل معالجةِ الوضع الملتهب في لبنان، وتنقُّلاتِ الرئيس الجميّل وأَسفاره الكثيرة، مصحوباً غالباً بِـمستشارين ثقة في علاقاتهم وخبراتهم، أَبرزُهم غسان تويني وإيلي سالم ووديع حداد، ترجَّحَت سنواتُ الجمر في عهد الرئيس الشيخ أَمين الجميّل بين استدراكاتٍ خارجيةٍ كي لا تدخلَ من الوساعة البرّانية، وتداركاتٍ داخليةٍ كي لا تَـخرجَ من الوسْع المحلي، وبين حريقٍ سياسيٍّ ضاغطٍ وحريقِ انفجارٍ في شارعٍ أَو حيّ، وبـهذه جميعها تتقلَّب صفحات هذا الكتاب لاهبةً كمضمونها، صَدَّاعةً كصُداع أَخبارها، مُقْلِقةً ولو استعادياً على مصيرٍ كان فيه لبنانُ لا في عين العاصفة وحسْب بل في فم التِنّين بين شَدقَين تناسَلاَ أَشداقاً متوحشَّةً مُـجرمةً لابتلاع هذا البلد الصغير الذي احتَمَل أَخطاء الآخرين وخطايا بعض أَبنائه، وباتت ساحتُه، رغماً عن معظمِه وتواطؤ بعض مَن فيه، حلَبَةَ اقتتالٍ وَفَدَ إليها الخارج والخارجون والخوارج، وهَلُمَّ يا رئيسَ الجمهورية تدارَكْ ما يُـمْكنُكَ أَن تَــرُدَّ به عن رؤُوس مُواطنيك.
كتاب جوزف شامي شهاداتٌ عادلةٌ للرئيس الشيخ أَمين الجميل الذي أَمسكَ بدفَّة الحُكْم جمرةً قاتلة، فأَدار ولايتَه بصَبر وحكمة، كي لا تَغرقَ السفينة في عُرْض المحيط منفيةً في لُـجج الغُرَباء.
عهد أَمين الجميّل، في كتاب جوزف شامي، إِيكارٌ لبنانيٌّ مقاومٌ عنيدٌ في زمنٍ لا يزال لبنانُ معه يتخبَّط إِيكاراً بعد إِيكار.