“صحيح أَنّ الأَجنبيّ، والياً كان أَو وصيّاً أَو مفوَّضاً سامياً، كان مُـحرِّك الأَحداث في لبنان، لكنه كان دوماً يجد حليفاً له من لبنانيّين يرضَون أَن يتآمروا معه على بلدهم. قد تتباين نِظرة قادة البلاد إلى مجريات السياسة، كما في أَيّ نظام ديمقراطي، أَما عندما يتهدَّد كيان البلد وأمنه، فلْيَضَعوا خلافاتهم جانباً ولْيَقفوا صفاً واحداً يجابهون الخطر بإِرادة وطنية جامعة، سواء كانوا في المعارضة أَو في الموالاة، كي لا يُحوّلوا البلد ساحةَ حربٍ للآخرين ومجالاً للصراعات الإقليمية والدولية، وهناك الكارثة الكبرى على البلد وشعبه ومستقبله”.
ليس هذا الكلامُ تصريحاً صدَر أَمس عن سياسيٍّ ينبِّه شعبه إلى خطر تفكُّك السياسيين وتباعُدهم وتنابُذهم إِزاء ما يجري في لبنان وفي محيط لبنان، بل هو كلامٌ رؤيويٌّ حكيمٌ للسفير اللّواء الركن أَحمد الحاج وَرَدَ في مقدمة كتابه “من الجندية إلى الدﭘـلوماسية” الصادر قبل أَيام عن منشورات “دار النهار” في 510 صفحات قطعاً وسطاً، مزوَّداً، إلى متن النص، بوثائقَ وصوَرٍ من مسيرة المؤلّف ضابطاً كبيراً في جيش لبنان ثم سفيراً مُـمَيَّزاً للبنان في الزمن الصعب.
في قريته بعاصير كانت دراستُه الأُولى ثم التحق بالإِنترناشونال كولدج، غيرَ راغبٍ في الالتحاق بالجامعة بل بالمدرسة الحربية تحقيقاً لـحُلمه بالجندية في نهاية 1947 عند قرار الأُمم المتحدة بتقسيم فلسطين.
بدأَت مسيرته العسكرية تلميذَ ضابط سنة 1948، فملازماً في مدرسة المشاة التطبيقية في سان ميكسان (فرنسا) سنة 1962، فإلى المدرسة العسكرية في ﭘـاريس موفَداً من وزير الدفاع اللواء فؤاد شهاب سنة 1956، إلى عضوية لجنة ثلاثية مع الشيخ عبدالله العلايلي وبطرس البستاني وفؤاد حبيش لوضع معجم يعرّب المفردات العسكرية، ثم قائدَ المدرسة الحربية سنة 1968.
ويفرد اللواء أَحمد الحاج فصلاً خاصاً عن عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي كان يكتب أَفكارَ خُطَبه بالفرنسية ويعطيها إلى أَحمد الحاج والياس سركيس لوضعها بالعربية، مستعينَين بتقي الدين الصلح لتمتين النص العربي.
بدأَت خدمتُه الرئيس شهاب نقيباً في الجيش ومديرَ الغرفة العسكرية في قصر الرئاسة ومستشاراً عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، ضمن فريق قليلٍ ثَبُتَ فيه المرافقَان الدائمَان النقيب منير السردوك والملازم ميشال ناصيف. ودامت علاقته بالرئيس شهاب حتى نهاية الولاية حين أَهداه الرئيس صورةً فوتوغرافية له كَتَبَ عليها: “إلى قائد الفوج أَحمد الحاج، ذكرى قلبية لتعاون فعّال في ظروف صعبة جداً لكنه مثمرٌ بفضل ضميركَ المهني وشعوركَ العالي بالواجب”، فؤاد شهاب-9 آب 1964.
ومع الرئيس شارل حلو ظلّ الحاج مستشاراً عسكرياً في القصر الجمهوري، ورافق الرئيس إلى مؤتمرات وزيارات ومباحثات رسمية عدة، حتى إذا جاء عهدُ الرئيس سليمان فرنجية أَبعَدَ الشهابيين القدامى، فكان نصيب العقيد الركن أَحمد الحاج إبعاداً إلى الأَرجنتين ملحقاً عسكرياً. ولم يعُد إلى العمل في ربوع الوطن إلاّ مع وصول رفيق دربه الياس سركيس إلى رئاسة الجمهورية فأَمضى معه ولايةً كاملةً من العمل والوفاء. ومع الرئيس أَمين الجميل رُشِّحَ مراراً لـرئاسة الحكومة، لكنه انتقل إلى السلك الدﭘـلوماسي سفيراً للبنان في بريطانيا وإيرلندا ثم في إيطاليا التي ختم فيها عهدَ الوظيفة وعاد متقاعداً بعد 43 عاماً بين سعادة اللواء وسعادة السفير.
قد يكون من الطبيعي أَن أَختم كلمتي عن اللواء الركن أَحمد الحاج مع نهاية كتابه. لكنني سأَختمها بالعودة إلى الصفحة 75 من الكتاب، وفيها لقاؤُه قائدَ الجيش اللواء شهاب سنة 1958وكان مرشَّحاً للرئاسة، فقال له: “يا ابن الحاج، أَخشى في حال قبولي رئاسة الجمهورية أَن تكون هذه سابقةً تُشجِّع الضبّاط الموارنة قادةَ الجيش لاحقاً على سعيهم إلى رئاسة الجمهورية مهما كان الثمن، فقد يكون في هذا الثمن خطرٌ غيرُ محسوب”.