الشابَّةُ الخَجولُ التي كانت تترك بيتَها في الحازمية قرب عملها في مجلة “الصياد” قاصدةً مبنى اللعازارية – بيروت، لتنعزلَ في غرفةٍ هادئةٍ من دار “المؤسسة الأَهلية للنشر” أَتاحتْها لها صاحبة الدار أَنجال عبود فأَمضَت فيها ستة أَشهر تَكتُب انطباعاتها عن معاناتها الشخصية بهجرة إِخوتها وفراغِ البيت والضيعةِ منهم، لم تكن تَعرف أَنّ الصفحات التي تكتبُها ستُصبح من ركائز الرواية في لبنان، وتُعلنُها في أَوساط لبنان الأَدبية كاتبةً جديدة اسمها إِمِلي نصرالله صاحبةُ رواية “طُيُور أَيلول”.
كان ذلك في مطلع أَيلول 1962. وفي الشهر نفسه، إذ كانت الكاتبةُ الشابّة مع ولدَيها في ضيعتها الكفَير، وليس في الضيعة هاتف، جاءَها من حاصبيا من يُنْبِئُها بأَن تنزل إلى بيروت لأَنّ روايتَها “طُيُور أَيلول” فازت بجائزة سعيد عقل، فعادت إلى بيروت واستلمَت الجائزة في نقابة الصحافة من النقيب عفيف الطيبي، فَرحَى بجائزة الشاعر الذي كانت تلتقيه في “الصياد” خلال اجتماعات التحرير التي غالباً ما كان سعيدُها فريحة يترك رئاستها لسَمِيِّه سعيد الشاعر.
بعد أَسابيعَ قليلةٍ كانت في انتظارها فرحةٌ أُخرى، يوم أَعلَنَت “جمعيّة أَصدقاء الكتاب” عن منح جائزتها مناصفةً لــرواية إِملي نصرالله “طُيُور أَيلول” ورواية “أَصابعنا التي تحترق” لسهيل ادريس.
كلُّ هذا الغَمْر التكريميّ هبَطَ على الكاتبة الشابَّة فُجَاءَةً سعيدة، هي التي لم يكُن في نيّتها أَن تكون كاتبةً ولا روائية. كلُّ ما كانت إليه أَنها سنة 1954 نزَلَت من ضيعتها الجنوبية الكفَير، وأَخذَت تُدرِّسُ كي تَقوم بمصروفها، وتَكتُبُ في مجلة “صوت المرأة” بتشجيعٍ من رئيسة تحريرها إدﭬـيك شيبوب، وتُسهِمُ في مجلة “دنيا الأَحداث” بتشجيعٍ من رئيسة تحريرها لورين الريحاني.
غير أَنّ “طُيُور أَيلول” أَخذَتْها إلى احتراف الكتابة، خصوصاً بعد تَلَقِّيها رسائلَ تشجيعيةً عدةً، بينها من ميخائيل نعيمه الذي كتَب لها: “كتابُكِ هذا كَسْبٌ كبيرٌ للقصّة في لبنان”. ومن طبعتها الأُولى سنة 1962 بغلاف رأْفت البحيري، تناولَها الشيخ فؤاد حبيش سنة 1967 وأَصدرها طبعةً ثانيةً منقَّحَةً في “دار المكشوف” بغلاف رضوان الشهال، ثم انتقلَت حقوق نشرها إلى مؤسسة نوفل في طبعة ثالثة سنة 1973 وأَخذَت تَتَتَالى طبعاتُها حتى بلغَت هذه السنة 2012 الطبعةَ الرابعةَ عشْرة، في مناسبة مرور خمسين سنةً على صُدُورها، مزوَّدةً هذه الـمَرّة بأُسطوانةٍ تحمِل صوت الكاتبة تَقرأُ روايتَها كاملةً، وهي ظاهرةُ “الكتاب الصوتي” الذي يَـجدُر بـمَسؤولي مدارسنا اعتمادُه لتلامذتهم كي يتابعوا النصَّ أَمامهم ويَسمَعوه بصوت صاحبة النص.
إنه قدَرُ الكاتب والكتاب: يَـخرُج من أَصابع مؤلِّفه ومن دولاب الـمطبعة فيُصبحُ مُلْك الناس يُقْبلون عليه أَو عنه يُعْرِضون.
هكذا قدَرُ إِملي نصرالله: من الصحافة إلى الأَدب، اجتذَبها الأَدب ولم تُعرِض عنها الصحافة فَسَطَعَت في الـميدانَين.
وهكذا قدَرُ روايتِها الـمُتَّشحةِ بالغُربة والحنين افتَتَحَتْها عبارة “عندما يَـحِلّ أَيلولُ، تاسعُ أَشهُر السنة، تَـمُرّ فوق قريتنا أَسرابٌ كثيرةٌ من طيورٍ كبيرةِ الحجم، قويّةِ الجناحَين، يعرفُها السكَّان بـ”طيور أيلول” فيلْتَفِتُون نحو الفضاء الـمُوشَّح ببواكير الغمام، يراقبون الطيور، وفي صدُورهم غصّاتُ انفعالٍ لرؤْية هذه الطيور المهاجرة”. وتتهادى الرواية على أَخبار السّفر والهُجرة وغُصَص الغُربة حتى تنتهي بصَدمةِ منى، بطَلة الرواية، عند عودتها إلى الضيعة بعد طولِ غياب ولم تعرفْها ضيعتُها، فتَختُم الرواية بقولها الوجيع: “رفضَتْني القريةُ لحظةَ انسحَبْتُ من وُجُودها لأَغرِسَ قدميَّ في تُربةٍ غيرِ تُربتها. شعرتُ بأَنها مَـحَت اسمي من سِجِلاّتها، فهرَعتُ إلى السيارة لأُقفِلَ عائدةً. وقبل أَن أَغيبَ عن أَعيُن القرية، وقفْتُ أُلقي عليها نِظرةَ وَداعٍ، فأَفلَتَ الزّمام من يدي، وبتُّ كرةً طائرةً بين مدينةٍ تَـمسَخُني وقريةٍ تُنكرُني. وقفْتُ هناك أَمُدُّ للريح ساعِدَيّ: بَطَلةً خائرةً في حلَبة صِراع، ونقطةَ استفهامٍ على جبين الأَرض”.